الأحد، 22 يونيو 2025

مجتمع الجزائر قديما ( عاتري قفصي وهراني سيفاري)





الإنسان في الجزائر قديما : العاتريّ، القبصي، الوهراني والسفاريّ.
مقال عماد الدين زناف

شهدت منطقتنا (شمال أفريقيا) وجودًا بشريًا مبكرًا ومستمرًا منذ بداية الخلق في الأرض، وتُعد ثلاثُ ثقافات ما قبل تاريخية في المنطقة من أبرز مراحل هذا الوجود البشريّ: الثقافة العاترية (Atérien)، والثقافة الإيبروموريسية (Ibéromaurusien) المعروفة أيضًا بالوهرانية (Oranien)، ثم الثقافة القفصية(Capsien). هذه الثقافات تغطي فترات زمنية مختلفة كما توضحه أبحاث العلماء، والحديث هنا عن بدايات العاترية في حوالي 145.000 سنة قبل الميلاد إلى حوالي حدود 6000 سنة قبل الميلاد، تمثل تطورات تقنية وسلوكية وإنسانية هامة في تاريخ شمال أفريقيا وأبعد من ذلك. تُعدّ الثقافة العاترية إذا أقدم هذه الثقافات، حيثُ امتدت تقريبًا بين 145.000 إلى 20.000 سنة قبل الميلاد، انتشرت في نقاط مختلفة من وسط ليبيا إلى أقصى الغرب، وارتبطت بصناعة حجرية مميزة، تتسم باستخدام رؤوس أدوات حجرية ذات قاعدة مشذبة (pedonculées)، يُعتقد أنها كانت تُركب على مقابض خشبية، مما يُشير إلى تقدم في تقنيات الصيد والبناء أيضًا، ما دفع الباحثين إلى تقريب النشاطات الحضارية بين مصر القديمة وباقي شمال إفريقيا. كما وُجِدت دلائل واضحة على ممارسة رمزية، مثل استخدام صبغة المغرة الحمراء (ocre rouge)، وحلي مصنوعة من الأصداف البحرية، ودفن موتى بشكل بدائي، ما يعكس نشاطًا ذهنيًا متطورًا لدى إنسان تلكَ الحِقبَة. وإذا أردنا التوغّل أكثر في أصول هذا الإنسان، فقد نجذ أن دراسات الحمض النووي القديم تشير إلى أن حاملي هذه الثقافة ينتمون إلى الإنسان العاقل (بالمصطلح العلمي المتداول)، وليس إلى النياندرتالي (Homo neanderthalensis) كما كان يُعتقد سابقًا.
بعد هذه الفترة، ظهرت الثقافة الإيبروموريسية (Ibéromaurusien)، والتي تعرف أيضًا بالثقافة الوهرانية (Oranien) ، التي سميت هكذا نسبة إلى المنطقة التي اكتُشفت فيها بعض أهم مواقعها، كما هو معروف، منطقة وهران تشمل معظم الغرب الجزائري وليس حدود الولاية الحالية. تطورت هذه الثقافة-الحضارة بين 22.000 و10.000 سنة قبل الميلاد، حيث امتدت على طول الساحل لكنها أكثر حصريّة جغرافيا من سابقتها، مع تركزها الخاص في الجزائر الغربية وشرق المغرب الأقصى. تميزت صناعتها الحجرية بطابع دقيق ومصقول (microlithique) إشارة إلى التطور التقني لأسلوب إنسان تلك الفترة، حيث وُجدت أدوات صغيرة مصنوعة من شرائح حجرية، وكذا أزاميل ومكاشط، كما كشفت الحفريات عن قبور غنية، بها بقايا بشرية من نوع "مشتة أفالو" (Mechta-Afalou)، مصحوبة بأدلة رمزية كالحلي والمغرة، وبقايا أثارها ما زالت تُكتشف في مناطق عين الصفرة بالنعامة مؤخرا. في السابق القريب، اعتُقد أن الجماجم الموجودة تعود إلى سلالة بشرية مختلفة (مختلطة)، ولكن التحاليل الجينية الحديثة بيّنت أنهم ينتمون إلى مجموعة شمال أفريقية ذات مكون أوروبي-آسيوي قديم يعود لفترة الخروج الأول للإنسان من أفريقيا، دون علاقة مباشرة مع الأوروبيين المعاصرين لهم في العصر الحجري الأعلى. Science, 2018* ثم جاءت الثقافة القفصية (Capsien)، والتي ظهرت ما بين 10.000 و6.000 سنة قبل الميلاد، وتركزت أساسًا في ضواحي مدينة قفصة النوميدية شرق الجزائر (مع كل من تبسة، سوق أهراس وقالمة). إذ تطورت فيها الصناعة الحجرية بشكل كبير، وهي الأكثر ثراءً وأكثرها معرفةً لدى المختصين لقربها الزمني، حيث كثُرت الأدوات الصغيرة الدقيقة، واستخدمت العظام والفخار في بعض المواقع المتأخرة. كذلك عرفت هذه الثقافة تطورًا كبيرًا في الممارسات الرمزية والفنية، إذ انتقل الإنسان من الحاجة إلى الفن (الرخاء)، مثل النقوش على الحجارة والعظام، ودفن الموتى مع أصداف ومغرة، ما يدل على طقوس جنائزية معقدة وبداية انتشار الطقوس الدينية. فاقتصاديًا، انتقلت المجتمعات "القفصية" نحو استغلال موارد متنوعة، كجمع الحلزونات البرية (escargots) وصيد الحيوانات الصغيرة، مع مؤشرات أولى على بداية الاستقرار شبه الدائم في بعض المواقع، مما يُعد تمهيدًا مبكرًا للمرحلة النيوليتية. . African Archaeological Review, 1984*
وعكس ما كان شائعًا في النظريات القديمة وما هو "للأسف" منتشر في المعلومات غير المستحدَثَة، لم تكن هذه الثقافات ناتجة عن تأثيرات أوروبية أو شرقية البتّة، بل تكشف الحفريات والدراسات الحديثة عن تطور محلي مستقل بشكل كبير جدًا، مع تفاعل انتقائي مع محيط البحر المتوسط والجنوب الصحراوي.
 لعبت شمال أفريقيا (مناطق واسعة في جزائرنا الحالية) دورًا حيويًا في تطور الإنسان، ليس فقط كممر عبور وربط حضاري متوسطي أفريقي مشرقي، بل أيضًا كمركز إبداع ثقافي وتقني منذ العصر الحجري الأوسط.
الآن بعد هذه الجولة التعريفية، السؤال المُتبادر على الذِهن : ما العلاقة بين الثقافات العاترية والقفصية والإيبروموريسية (الوهرانية) وآثار الإنسان في سيفار (وغيرها)؟ لأننا نقرأ ونسمع ونرى عنها الكثير، لكننا ما زلنا ندرها بمعزل عن أي ثقافة أو حضارة قائمة ومعروفة. 
إن منطقة طاسيلي ناجر الواقعة جنوب شرق الوطن، هي أحد أغنى وأهم المواقع الأثرية في العالم لما قبل التاريخ، وتحديدًا لما يعرف بـ"الفن الصخري الصحراوي". فكما شهد شمال أفريقيا (تحديدا مناطق واسعة من الجزائر الحالية) سلسلة من الثقافات الحجرية الكبرى مثل العاترية (Atérien)، الإيبروموريسية (Ibéromaurusien) والقفصية (Capsien). يثير هذا التنوع الزمني والجغرافي سؤالاً جوهريًا في علم الآثار عن ما مدى وجود صلة ثقافية أو تطورية بين هذه الثقافات القديمة وسكان منطقة طاسيلي ناجر، خصوصًا أولئك الذين تركوا بصماتهم على جدران كهوف سيفار وغيرها من المناطق المجاورة؟ عن حياة زاخرة جميلة من ناحية، وكذا مخيفة ومثيرة من ناحية أخرى.
بحسب مطالعاتي المتكررة، استخلصت أنه لا بد من التمييز بين مستويين مختلفين من الدراسة في هذا الأساس: المستوى الأثري التقني (أي صناعة الأدوات الحجرية والأنشطة الاقتصادية)، والمستوى الرمزي والفني (مثل النقوش والرسوم)، وكغير مختص، لا يمكنني أن أصنع ربطا بينهما دون دليل علمي منشور. فالثقافات العاترية والإيبروموريسية والقفصية تُعرف أساسًا عبر الأدوات الحجرية ومخلفات الدفن، بينما تُعرف طاسيلي ناجر بشكل رئيسي عبر الفن الصخري، الذي يعود تاريخه – حسب التأريخ بالكربون المشع – إلى ما بين 10.000 و2.000 سنة قبل الميلاد، أي أنه يغطي الفترة القفصية والنيوليتية والصحراوية، وليس الفترة العاترية التي تسبقها بكثير، إذا لدينا مادة علمية مهمة جدا لفهم ودراسة الفترة. 
تأتي الروابط الزمانية لتشير إلى أن المرحلة النيوليتية أي حوالي 7000–3000 ق.م، أي ما بعد القفصية، هي الأقرب زمنياً لفترة ازدهار فنون طاسيلي ناجر، خاصة ما يُعرف بـ"مرحلة البقر" (Bovidian period). وقد عرفت هذه المرحلة تحولاً بيئيًا كبيرًا في الصحراء الكبرى، حيث كانت المنطقة تتمتع بمناخ رطب نسبيًا، مما أتاح الاستقرار البشري، الرعي، وترك آثار ثقافية غنية تمثلت في رسوم الحيوانات والطقوس الدينية والأنشطة اليومية، ومن يرى الخرائط الجغرافية العلمية لتلك الفترة، لرأى قُرب بحيرة عظيمة جدا من سيفار، ما يشرح النشاط الاجتماعي والاقتصادي فيها، وهذا ما يفسر أيضا وجود مياه جوفية عظيمة تحت هذه الأرض. وبالرغم من غياب أدلة مباشرة تربط تقنيًا بين أدوات القفصيين الشماليين وسكان طاسيلي، إلا أن التراكم الثقافي في شمال أفريقيا، وخاصة من خلال الهجرات الجنوبية، يشير إلى أن سكان النيوليت الصحراوي الذين خلّفوا رسومات سيفار قد يكونونَ امتدادًا تطوريًا أو متأثرين بالثقافات التي سبقتهم، خاصة القفصية، من حيث الرمزية واستخدام الأصباغ وممارسات الدفن، وهو ما يُفترض من التشابه في استخدام المغرة (Ocre rouge)، واختيار مواقع مرتفعة للدفن والرسم.. وهذا في ذاته تقدم رهيب في فهم سر هذه المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، يشير باحثون مثل Jean-Loïc Le Quellec وHenri Lhote إلى أن مرحلة "رعاة البقر" في فنون طاسيلي تتزامن مع وجود ثقافة رعوية – زراعية، وقد تكون هذه المرحلة مرتبطة بما يسمى في الأدبيات الغربية بـ"النيوليت الصحراوي" (Saharan Neolithic)، وهي حضارة لاحقة للقفصيين في الشمال، فهل يمكننا أن نتهوّر بقول أنه اتحاد شعبي قديم بدأ يترسّخ في تلك المنطقة منذ تلك العصور؟ الفكرة غير مستبعدة.  
كما أن الأبحاث الجينية الحديثة مثل دراسة Lazaridis et al., 2018 تظهر أن سكان شمال أفريقيا "بعد القفصيين" تفاعلوا وراثيًا مع شعوب قادمة من الشرق والجنوب، وهو ما يعزز فرضية حدوث امتداد سكاني وثقافي من الساحل المتوسطي نحو أعماق الصحراء في فترة النيوليت. وما يدعم هذه النظرية هم ثلاث أشياء :
1. الامتداد الجغرافي والتدرج البيئي، إذ من الممكن أن القفصيين أو من خلفهم انتقلوا جنوبًا تدريجيًا، خاصة خلال فترات الرطوبة الكبرى (Green Sahara) التي امتدت تقريبًا بين 9000 و3000 ق.م، ما أتاح الاستيطان في عمق الصحراء الكبرى، التي لم تطن صحراءً في تلك الفترة. 
2. الاستمرارية الرمزية واستخدام الأصباغ، رسوم الحيوانات، الشعائر الجنائزية، كلها عناصر ظهرت أولاً في الثقافات المتقدمة لشمال أفريقيا قبل أن تتخذ شكلًا أكثر تطورًا وفنية في فنون طاسيلي ناجر.
3. الشبه الأنثروبولوجيفي بعض الرسوم في طاسيلي (مثل الكائنات ذات الرؤوس المستديرة أو الهيئات العملاقة) قد تشير إلى معتقدات أو رموز بدائية بدأت في مراحل أقدم، مع فرضية تطورها أو تحورها مع الزمن والموقع.
_

بعض المصادر العلمية الأساسية التي اعتمدت عليها :
• van de Loosdrecht et al., Science, 2018 : https://www.science.org/doi/10.1126/science.aar8380
• Hublin et al., Nature, 2017 : https://www.nature.com/articles/nature22336
• Camps G., Les civilisations préhistoriques de l’Afrique du Nord et du Sahara, CNRS, 1974
• Tixier J., Typologie de l’Atérien, L’Anthropologie, 1967
• Lubell D. et al., African Archaeological Review, 1984 : https://doi.org/10.1007/BF01117461
• Le Quellec, J.-L. (2004). Du Sahara au Nil. Peintures et gravures d’avant les pharaons. Éditions Errance.
• Lhote, H. (1959). Les fresques du Tassili. Arthaud, Paris.
• Smith, A.B. (2005). African Herders: Emergence of Pastoral Traditions. AltaMira Press.
• Kuper, R., & Kröpelin, S. (2006). Climate-controlled Holocene occupation in the Sahara: Motor of Africa’s evolution. Science, 313(5788), 803–807. https://doi.org/10.1126/science.1130989
• Lazaridis, I. et al. (2018). Genomic insights into the origin of farming in the ancient Near East. Nature, 536, 419–424. https://www.nature.com/articles/nature19310

🚀 الروابطة المباشرة للمطالعة :
• https://archive.org/details/revue-generale-des-sciences_1933-11-15_44_21/page/606/mode/2up?q=at%C3%A9rien&view=theater
• https://archive.org/details/libyca_1955_3/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/bulletin-de-la-societe-histoire-naturelle-de-afrique-du-nord_january-february-1956_47_1-2/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/bulletin-de-la-societe-histoire-naturelle-de-afrique-du-nord_1934-11_25_8/page/334/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/encyclopedie_berbere_n_16/encyclopedie_berbere_n_1/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/histoire-de-lhumanite-vol-vii-le-xx-e-siecle-de-1914-a-nos-jours/histoire%20de%20l%27humanit%C3%A9%20-%20vol%20I%20-%20de%20la%20pr%C3%A9histoire%20aux%20d%C3%A9buts%20de%20la%20civilisation%20/mode/2up?q=at%C3%A9rien

#عمادالدين_زناف #الجزائر #استرجع_تراثك

الاثنين، 9 يونيو 2025

البونيقيّة لغة شمال إفريقية




البونيقيّة.. لغةٌ شمال إفريقيّة.
مقال عماد الدين زناف.

كانت اللغة البونيقية مزيجًا محليًا مميّزًا بين اللغة الفينيقية الطارئة على شمال إفريقيا، واللغة الليبيقيّة الأصلية القديمة.
وقد كانت تنتمي إلى العائلة السامية الغربية من حيث اللسان المحكي، كما صنفها شلوزر في القرن الثامن عشر. وقد تطورت هذه اللغة نتيجة الهجرات الفينيقية إلى شمال إفريقيا، واستقرارهم في بعض سواحلها، وخاصة في مدينة قرطاج التي تأسست نحو سنة 814 قبل الميلاد، ومع مرور الزمن، وبسبب الاحتكاك الطويل بالسكان المحليين الأمازيغ، تبلورت البونيقية كلهجة مميزة عن الفينيقية الأم التي سريعا مع تركت المكان لعدة لغات من بعدها، وتطورت تدريجيًا حتى أصبحت لغة مستقلة في الاستخدام الشفهي والكتابي، يتميز بها سكان قرطاج ونوميديا وغرب ليبيا، خاصة ابتداءً من القرن السابع قبل الميلاد تقريبًا، كما توثق النقوش القديمة على الأضرحة والقرابين الدينية¹.

تميزت البونيقية بتأثر واضح باللغة الأمازيغية القديمة، وقد أثبتت الدراسات الألسنية الحديثة وجود مفردات ذات أصل أمازيغي في البونيقية خاصة في مجالات الزراعة والحياة الريفية. ومن أبرز تلك المفردات، كلمات تتصل بالحيوانات، والبيئة، فقد أصبحت ذات أصول مشتركة بين البونيقية واللهجات الأمازيغية القديمة، إذ نستطيع القول بأن البونيقية أنتجت المعاني والمصطلحات الأمازيغية ووثقتها كتابيا بهذه اللغة، لأن الأمازيغ لم يكونوا يُعنَون بالتدوين والكتابة، إذ تبين الأبحاث بأنهم تخلوا عن فعل ذلك منذ قرون بما تم اكتشافه من لغتهم القديمة في الكهوف (تاسيلي ناجر) والصخور والجدران المترامية المسافات في شمال إفريقيا.

والواضح أن قيام دولة قرطاجة ونوميديا كانا الفاعلان الأساسيان لضرورة الكتابة والتدوين، ما أنتج لغتهم المعاصرة المميزة.

كما أن أسماء مواضع وقبائل محلية أمازيغية استُعيرت كما هي داخل الكتابات البونيقية، مما يدل على تمازج وانصهار لغوي واجتماعي عميق، بهذا تشير بعض الأبحاث أيضًا إلى أن البنية الصوتية للبونيقية، في مراحلها المتأخرة خاصة، قد تأثرت بإيقاع الأصوات الأمازيغية، كما يُستدل من مقارنة النقوش المتأخرة في المناطق الداخلية من تونس والجزائر ².

أما فيما سمي بالعصر الكلاسيكي، أي بين القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد، فقد أصبحت البونيقية هي اللغة الرسمية للدولة القرطاجية، وقد استُخدمت في السياسة والطقوس الدينية والتجارة. وقد ظهرت في تلك الدولة نقوش ثنائية باللغة البونيقية وكذا اليونانية، مما يعكس حجم التبادل الثقافي بين قرطاج والعالم الهيليني (اليونان القديمة) ³. أما من الناحية اللغوية، فقد احتفظت البونيقية في بدايتها بالبنية الفينيقية من حيث الحالات الإعرابية الثلاث، لكنها سريعا ما بدأت تفقد بعض هذه السمات تدريجيًا نحو البساطة.

وبعد تدمير قرطاج على يد الرومان والنوميد عام 146 ق.م، لم تنقرض اللغة البونيقية فورًا، بل استمرت منطوقة في بعض المناطق، خاصة في شمال شرق الجزائر وفي جزيرة مالطا، وفي أواخر القرن الرابع الميلادي، أشار القديس أوغسطين إلى وجود أشخاص يتحدثون "الكنعانية"، قاصدًا بذلك البونيقية، وقد ذكر في كتابه De Doctrina Christiana بعض التعبيرات التي كانت لا تزال متداولة في منطقته آنذاك ⁴.

أما من حيث الأصل العرقي للشعوب المتكلمة بالبونيقية (الأمازيغ وبقايا الفينيقيين)، فلم تكن لهما علاقة بساميي المشرق، لا من حيث النسب الدموي ولا من حيث الثقافة مع انقراض الفينيقية تماما. فبحسب العديد من الدراسات الأنتروبولوجية الكلاسيكية، فإن الفينيقيون لم يكونوا ساميي العرق إنما "حاميين" من حيث الأصل البيولوجي البعيد.د، أي ينتمون إلى ما كان يُصطلح عليه قديمًا بالعرق الحامي، الذي يشمل جزءًا من شعوب شمال إفريقيا من بينها مصر، بينما كانت السامية فيهم لغةً وثقافة فقط، تبنّوها في عصور سحيقة بفعل احتكاكات حضارية في المشرق ⁵.
 وقد أكد هذا الاتجاه عدد من الباحثين الأوروبيين في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، منهم François Lenormant الذي ميّز بين "السامية اللغوية" و"السامية العرقية"، مشيرًا إلى أن الفينيقيين يتحدثون لغة سامية لكن لا ينتمون بالضرورة إلى العرق السامي ⁶.

وكماوتعلمون، إن هذا التمييز العلمي التاريخي ضروري اليوم، وذلك لمواجهة الأطروحات الأيديولوجية التي تربط بين الفينيقيين والعرب دون أسس علمية. فاللغة البونيقية تختلف جذريًا عن العربية (القديمة كالآرامية النبطية، والحديثة في عصر البِعثة) وذلك في البنية الصرفية والنحوية. ويؤكد العديد من الباحثين مثل Giovanni Garbini وKrahmalkov أن العربية والبونيقية تنتميان إلى فرعين منفصلين من اللغات السامية واسعة الدائرة، دون أن تكون إحداهما أصلاً للأخرى ⁷ و ⁸.

كذلك استُخدمت البونيقية في كتابة العديد من النقوش الدينية والتجارية، وكانت تُكتب بأبجدية مشتقة من الفينيقية القديمة تتكون من 22 حرفًا صامتًا دون تمثيل واضح للحركات، ثم أُدخلت لاحقًا رموز ثانوية لتمثيل بعض الأصوات الشبه المتحركة، لذلك سميت البونيقية الجديدة neo punic، وتشمل المصادر الأساسية لدراسة هذه النقوش: Corpus Inscriptionum Semiticarum إضافة إلى أعمال P. L. Agar وKAI التي جمعت أهم النقوش الفينيقية والبونيقية من مختلف أنحاء البحر المتوسط ⁹.

باختصار، إن البونيقية قد تبلورت تأثرا باللغة المحلية الأمازيغية باختلاف مصطلحات الأشياء والأفعال، كما استعارت منها بعض المفردات، وفي المقابل، تسربت بعض الكلمات البونيقية إلى اللاتينية في الفترة الرومانية، كما أثرت سالفتها الفينيقية في اليونانية، منها مثلًا كلمة mustum (عصير العنب) التي يُرجّح أنها مأخوذة من الجذر البونيقي mšt.

ومع دخول شمال إفريقيا في دائرة السيطرة الرومانية وازدهار اللاتينية بشكل كبير، بدأت البونيقية في التراجع شيئا فشيء، خصوصًا بين النخب والمثقفين، كما مر علينا عندما تحدثنا عن جامعة مادورا بسوق أهراس-أقدم جامعة في التاريخ-، إذ كانت الدراسة فيها باللاتينية واليونانية، وذلك ما يعكس فشل البونيقية في التأقلم مع اللغات الحية يومئذ، ثم اختفت تمامًا كلغة مستعملة ومكتوبة في القرون اللاحقة، ويُعتقد أن آخر أثر لها اختفى بنهاية القرن الخامس الميلادي، رغم محاولات بعض الآباء المسيحيين مثل أوغسطين الحفاظ على بعض تعبيراتها في الكتابات اللاهوتية، أو المحاولات الدوناتية لمناهضة الثقافة الرومانية.
_
المراجع؛

¹ M. B. Rowe, Phoenician and Punic Inscriptions: Corpus and Analysis, 1989. 

² K. Jongeling & R. M. Kerr, Late Punic Epigraphy: An Introduction to the Study of Neo-Punic and Latino-Punic Inscriptions, Mohr Siebeck, 2005. 

³ A. Moscati, The World of the Phoenicians, 1999. 

⁴ St. Augustine, De Doctrina Christiana, 397 م. 

⁵ Gabriel Camps, Les Berbères: Mémoire et identité, Editions Errance, 1987. 

⁶ François Lenormant, Les origines de l'histoire d'après la Bible et les traditions des peuples orientaux, Paris, 1880. 

⁷ Frank L. Krahmalkov, A Phoenician-Punic Grammar, 2001. 

⁸ Giovanni Garbini, History and Ideology in Ancient Israel, SCM Press, 1988. 

⁹ Corpus Inscriptionum Semiticarum.
___

▪️Stanislav Segert – A Grammar of Phoenician and Punic.
▪️Johannes Friedrich & Wolfgang Röllig – Phönizisch‑punische Grammatik.

#عمادالدين_زناف #استرجع_تراثك #استرجع_تراثك

الجمعة، 6 يونيو 2025

قبيلة بني فرڨان -وعائلة زناف




أرشيف فرنسي من سنة 1867م عن قبيلة بني فرڨان، 
التي تعد رأسا لعوائل كثيرة جدا ينتسبون إليها
(والتي ننحدر منها أيضا).

▪️نبذة سريعة عن عائلتي وملخص الصفحات:

تعود عائلة زناف إلى قبيلة بني فرڨان كما ذكرت في السابق (كتاب من تاريخ الثقافة في زمورة، تجميع أ.عبد المجيد بن داوود عن عميد الأشراف الشيخ الزموري، فقرة (حي السويقة))، وهذا الكتاب الذي يحمل مراسلات إلى نابوليوت الثالث، من الأرشيف الفرنسي لسنة 1867م، يؤكد أن أصول بني فرڨان تعود إلى قرية زمورة العتيقة في برج بوعريريج، ومنها تفرقت قديما على الشرق الجزائري (جيجل، دائرة القل، قسنطينة.. وغيرهم) بسبب معارك يقال أنها تعود للتواجد العثماني في المنطقة. بقيَ بعض من بني فرڨان في زمورة ومجانة ومناطق أخرى، رغم هجرة معظمهم، وقد كان جدي من المتأخرين في مغادرة زمورة إلى العاصمة مطلع القرن العشرين وسكن في قصبة الجزائر (بولوغين)، أين ما زالت عائلة أخيه (أحفاده) تسكنها إلى اليوم. تناسب جدي في زمورة مع عائلة المقراني التي نزحت من بجاية وسكت المنطقة، حيث تزوج بجدتي التي تعتبر بنت حفيد الشيخ محمد المقراني ورحلا معا وسكنا في القصبة، كذلك ما زالت عائلة جدتي في مجانة وفي زمورة أيضا.
 ( رحمهما الله)



_
▪️تفاصيل المراسلة:

رقم 470. — تقرير إلى الإمبراطور (نابوليون)
باريس، 20 جويلية 1867

سيدي،
لقد تم تعيين قبيلة بني فرڨان، دائرة القل، بمرسوم بتاريخ 7 أكتوبر 1866، لتطبيق الفقرتين 1 و2 من المادة 2 من السيناتوس-كونسلت بتاريخ 22 أفريل 1863، ويشرفني أن أضع أمام أعين الإمبراطور نتيجة العمليات المنجزة على أراضيها من طرف اللجنة الإدارية بقسنطينة.

📍 بنو فرڨان، أصلهم قبيلة من زُمورة، بدائرة برج بو عريريج، وقد طُردوا في زمن قديم جداً من موطنهم بسبب الحرب، فجاؤوا واستقروا في الإقليم الذي لا يزالون يشغلونه إلى اليوم، بالقرب من واد الزهور، على بعد حوالي 50 كيلومترًا غرب القل. يحدهم شمالًا البحر، شرقًا أولاد عطية، جنوبًا مشاط والجبالة، وغربًا بني بو العيد.

وقد تم تحديد مساحة أراضي القبيلة بـ 4,912 هكتارًا و60 سنتيارًا.
يبلغ عدد سكان القبيلة 1,581 نسمة، يملكون 333 كوخًا أو خيمة، 400 حصانًا أو بغلاً، 10 حمير، 1,029 رأس بقر، 1,182 رأس غنم، 9,188 رأس ماعز، 100 خلية نحل. عدد المحاريث المزروعة 135؛ والضريبة المفروضة 8,241 فرنك و07 سنتيم، منها 1,257 فرنك و11 سنتيم إضافي.
المنطقة تقع جزئيًا في السهل وجزئيًا في الجبل، وتتميز بخصوبتها. وتُعد تربية المواشي، الزراعة، وصناعة الزيت من الصناعات الأساسية للقبيلة.
يملك بنو فرڨان الأرض ملكية حرة (ملكية "ملك")، وتمتد الملكيات الخاصة على مساحة 3,131 هكتارًا و94 آرًا و55 سنتيارًا، وهي تشكل مجموعة تتركز في وسط القبيلة؛ أما الأراضي التابعة لأملاك الدولة والأراضي العمومية والأملاك الجماعية فتقع في الأطراف. هذه الشروط المختلفة تبرر تأسيس دوار واحد يحمل اسم بني فرڨان.

القبيلة لا تملك أراضي جماعية للزراعة.

تشمل الأملاك الجماعية ثلاث أراضٍ للرعي مخصصة لهذا الاستخدام منذ زمن بعيد (224 هـ، 31 آر، 05 س) إضافة إلى 23 مسجدًا أو مقبرة (0 هـ، 75 آر).
تشمل الأملاك العمومية 775 هـ، 46 آر، 70 س، منها 51 هـ، 89 آر، 80 س تخص الطرق والأنهار والعيون، و723 هـ، 56 آر، 90 س وهي عبارة عن كثبان رملية تشكلت من ترسبات البحر.
المطالب المتعلقة بالأملاك العامة وعددها أربع لم تواجه أي معارضة من "الجماعة" ولا أي مطالبة خاصة مضادة.
الأولى تتعلق بقطعة أرض تدعى بُو-بازيل، مساحتها 1 هـ، 74 آر، كانت منذ زمن طويل مخصصة لمبيت الجنود، على طريق فيليبفيل (سكيكدة) إلى جيجل، وقد بقيت ملكًا للدولة بدون نزاع.

الثلاثة الأخرى تتعلق بثلاث مجموعات غابية:
المجموعة رقم 17، مساحتها 89 هـ، 52 آر، 50 س، تم منحها؛
المجموعتان رقم 18 و19، مساحتهما 451 هـ، 04 آر، 80 س، تم منحهما؛
المجموعة رقم 20، مساحتها 237 هـ، 81 آر، لم تُمنح.
يمارس بنو فرڨان حقوق الرعي والاستخدام في هذه المجموعات الثلاث، والتي لم يكن من الممكن استردادها عن طريق التبادل، ويجب الإبقاء على الوضع الحالي إلى حين تنظيم مسألة الحقوق الغابية.
خلاصة القول، لم تُسجّل أي صعوبات أو حوادث ملحوظة أثناء تطبيق السيناتوس-كونسلت على بني فرڨان؛ حيث تم تطبيق تعليمات المراسيم والنصوص بانتظام، ولا يسعني إلا أن أطلب من جلالة الإمبراطور التكرم بالمصادقة على المقترحات التي تُلخّص هذه العمليات، بالتوقيع على مشروعي المرسومين المرفقين.
وبما أن الملكية لدى بني فرڨان هي ملكية حرة (ملكية "ملك")، فإن السيناتوس-كونسلت قد نُفّذ بالكامل في هذه القبيلة، وستبقى المعاملات العقارية فيها حرة دون منازع.

أنا. المارشال الفرنسي،
الوزير كاتب الدولة في وزارة الحرب،
الموقّع: نييل.

مصادق عليه:
الموقّع: نابوليون.






#عمادالدين_زناف #الجزائر #استرجع_تراثك

الثلاثاء، 3 يونيو 2025

الفينيقيون.. حصان الطروادة الثقافي




الفينيقيّون.. حصان الطروادة الثقافي
مقال عماد الدين زناف.

بعد قراءة هذا المقال، سيتمكن القارئ من فكّ الارتباط بين النسب على أساس العِرق والنسب على أساس العائلة الثقافية المشتركة.

إن أصل الفينيقيين، هؤلاء الحاميّون الذين انصهروا في أرض سام.. هو موضوع جدلي معقّد بالنسبة للعلماء، فكيف هو بالنسبة للشعوب التي تبحث عن الحقائق الواضحة في قضايا التاريخ، دون مراعاة أنها قضايا تتعلق بزمنٍ غابر. وبين فضول العلماء، وحماسة الشعوب، يأتي المؤدلجون ليستغلّوا الثغرات المعرفية والفراغات التي يتركها لهم العلماء، ليركبوا على ما هو غير مفهوم، ويجعلوه حصان طروادة لتمرير كل مشاريعهم الحزبية والقومية والسياسية.
دعوني أولًا أسلّط الضوء على الجانب الذي لا يعني المتحمّسين للنتائج السريعة، إذ هو يجمع بين علم الآثار والنصوص القديمة والأنساب التوراتية والمطالبات الهوياتية المُلحّة.
يُعرف الفينيقيون تاريخيًا بأنهم سكان مدن الساحل الكنعاني (في مدن صور، صيدا، وجبيل، في لبنان الحالي) وذلك منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، ويُعترف بهم – من طرف علماء اللسانيات والآثار – عمومًا كشعب يتحدث لغة سامية من الفرع الشمالي الغربي، وهو مرتبط بالكنعانيين.
إن هذه النسبة – لـ سام، وإن كانت لسانية فقط – تُثير نقاشًا حادًا عند مؤدلجي شمال إفريقيا، خاصة عندنا في الجزائر، خصوصًا فيما يتعلق بالادعاء القائل بأن الفينيقيين "الساميين ثقافيًا" قد تكون لهم صلة قرابة بالعرب، وذلك عن طريق الجد الواحد "سام بن نوح"، ما يجعلهم يتصوّرون أن الفينيقيين والعرب شيء واحد، بل قالوا إنهم عرب بشكل صريح، وإن كل آثارهم في شمال إفريقيا إنما هي آثار العرب القدماء، دون التوغّل في نتائج هذا الكلام غير العلمي، إذ إن هدف هذا المقال هو تصحيح المفاهيم، لا الخوض في الجدال العقيم.
بحسب التقليد التوراتي (في سفر التكوين 10: 6–19)، فإن كنعان هو ابن حام، وكنعان هذا نزل أرض الشام، وسكنها، وصارت تُسمّى أرض كنعان، وتشعّب منها خلقٌ (الذين أصبحوا شعبًا خليطًا بين الساميين والحاميين، ما يخلط كل شيء في ذهن الباحث).
سكنَ بلاد الشام شعب من كنعان قبل ظهور بني إسرائيل، وأسسوا القدس "أورشاليم"، وهم اليبوسيون، شعب من كنعان بن حام، وذلك قبل نزول الخليل إبراهيم عليه السلام من أُورك إلى بلادهم بحواليّ ألفي سنة، حيث نجد في العهد الجديد رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين 7: 1 "لأَنَّ مَلْكِي صَادَقَ هذَا، مَلِكَ سَالِيمَ، كَاهِنَ اللهِ الْعَلِيِّ، الَّذِي اسْتَقْبَلَ إِبْرَاهِيمَ رَاجِعًا مِنْ كَسْرَةِ الْمُلُوكِ وَبَارَكَهُ" و"ملكي صادق" ليس اسم شخص ولكنه اسمُ رتبة راهب عالي المقام باللغة الكنعانية، ما يشير ويُبيّن تأثرهم واندماجهم مع اللسان السامي.
وكما نعلم، تُميز التوراة بوضوح بين نسل حام (كنعان، كوش، مصرايم، وفوط) ونسل سام ومنهم عابر (هود عليه السلام)، الذي يُعد سلف العبرانيين والعرب. وبهذا التقسيم أخذ كل المؤرخين المسلمين.
إن هذا التمييز في النَسَب يخلق إشكالًا في عقل القارئ والباحث، عندما يُنسب الفينيقيون إلى صيدون وحِثّا بن كنعان الحامي النسب، وفي الوقت نفسه يُوصفون بأنهم "ساميون"، لأن لغتهم الموروثة عن الكنعانيين أجدادهم (صيدون، وحِثًّا، واليبوسي، والأموري، والجرجاشي، والحِوِّي، والعرقي، والسيني، والأروادي، والصماري، والحماتي) هي من لسان ساميّ، في حين أن إطلاق مصطلح "السامية" يشير تلقائيًا إلى "نسل" سام.
لكن الحقيقة التي يقفز عليها المؤدلجون، هي أن مصطلح "السامية" هو مصطلح حديث جدًا، ظهر في القرن الثامن عشر عند (Schlözer, 1781)، وهو يعتمد على تصنيف لغوي وليس على نسب ديني أو عرقي، إذ إن العلماء لا يعتمدون إطلاقًا على النصوص الدينية وما ذكرته من أنساب عرقية، بل يصنّفون الشعوب حسب موروثهم اللساني.
وهذه القضية كذلك تُبقي الفضوليين والباحثين على عطشهم، لأن الجميع يعلم أن اللغة وحدها لا تُحدد عرق المتحدّث، فالجزائري المولود في الصين، سيتحدّث الصينية بطلاقة، وربما سيموت وهو لا ينطق كلمة واحدة أمازيغية ولا عربية، ومع ذلك فهو ابن شمال إفريقيا بالدم والعرق، صينيّ الثقافة واللغة والمسكن، وكذلك المؤلفات والمقالات المتروكة من بعده.
فإهمال أصول هذا الجزائري أصلاً، بحجّة أنه صيني اللسان والثقافة، لا يتفق عليه أحد، خاصة المسلمين الذين يولون اهتمامًا بالانتساب للأب، لأسباب عرفية وكذلك لأحكام دينية.
علم الآثار، كما توضحه أعمال E. Lipiński في كتابه The Aramaeans: Their Ancient History, Culture, Religion (Peeters, 2000) و Markoe في كتابه Phoenicians (University of California Press, 2000)، يثبت أن الفينيقيين كنعانيون "ثقافيًا" أي الكنعانيون المنصهرون تمامًا مع الثقافة السامية، بدليل آلهتهم (بعل، عشتروت)، ولغتهم، ونظام كتابتهم، وتنظيمهم الاجتماعي والحضري، كلّها امتداد مباشر لمدن كنعان في العصر البرونزي، وذلك دون أي انقطاع عرقي.
أما لغتهم، فهي من الفرع السامي الشمالي الغربي، وهي قريبة من العبرية والآرامية بحكم التأثر المباشر بينهم، ما يبرر من منظور لغوي فقط وصفهم بـ "الساميين"، رغم أن التوراة تُخرجهم من نسل سام وتنسبهم إلى حام.
أما الدراسات الجينية الحديثة فقد زادت من غموض هذه العلاقة، حيث أظهرت دراسة الحمض النووي القديم بقيادة Zalloua 
وآخرين (2008, The Phoenician's DNA and the Spread of the Alphabet, American Journal of Human Genetics)، والتي أُجريت على مواقع فينيقية في تونس ولبنان وإسبانيا، وجود استمرارية في بعض السلالات الجينية القادمة من المشرق القديم (خاصة J2) لدى سكان هذه المناطق اليوم.
كذلك جاءت دراسة حديثة أكثر دقة، ارتكزت في تونس، تلخصت في كون معظم نتائج الأحماض النووية التي كانت تُظن أنها مشرقية، هي شمال إفريقية بحتة.. ليعود الحديث عن جدّيّة حاميّة الفينيقيين وأفرقتهم.
وهذا لا ينفي وجود أثر تاريخي لفينيقيين من صنف مشرقي، لكنه لا يعني بأي حال وجود علاقة عرقية مع العرب (J1) الساميين، أو لغوية مباشرة معهم، الذين جاؤوا في القرن السابع الميلادي إلى شمال إفريقيا. فالتعريب كان ظاهرة لاحقة ترتبط بسياق الفتوحات الإسلامية ونزوح العرب بشكل تدريجي بعد ذلك بقرورن (القرن 12م بالنسبة لبني هلال وبني سليم) وليس نتيجة قرابة سلالية سامية قديمة كما يدّعيه المؤدلجون.
إن الجدل في شمال إفريقيا ينبع جزئيًا من قراءات أيديولوجية حديثة؛ إذ تسعى بعض التيارات القومية البعثية إلى تبرير الحضور العربي في المنطقة من خلال ربطه بعناصر "أصلية" أو "قديمة" مثل الفينيقيين، كما ذكرت في المقدمة، ظانّين أو موهِمين أن لغتهم السامية من صميم عرقهم كذلك. ما ننفيه بالمطلق كما ينفيه كل العلماء الذين يؤكدون أن الفينيقيين كنعانيون حاميو العرق، وليسوا عربًا من أبناء هود، ولا ساميين أصلًا من أي ابن من أبناء سام.
وبالتالي فهم غرباء عن عرب الحجاز والشام واليمن. وهذا الانقسام له جذور أيضًا في القراءات التاريخية التقليدية مثل قراءة ابن خلدون في كتاب العبر، والعشرات من المؤرخين من قبله، الذين يميزون بوضوح بين العرب البائدة (وهم ساميون) والعاربة (أحفاد قحطان بن هود عليه السلام، الذي يعود إلى أرفكشاد بن سام على قول، وقول آخر ينسبه لسام لكن ليس لهود)، والمستعربة (أحفاد إسماعيل بن إبراهيم، الذي يعود إلى هود عليه السلام، الذي يعود أيضًا إلى أرفكشاد بن سام)، والكنعانيين (صِيدُون، وَحِثًّا، وَالْيَبُوسِيَّ، وَالْأَمُورِيَّ... كما ذكر العهد الجديد)، وأحفاد مازيغ، البربر عند المؤرخين المسلمين، وكذا ما قالوه عن أبناء يافث كذلك من الصقالبة ويأجوج ومأجوج ويونان وكتيم وترشيش وغيرهم.
وبعد، فإنه تاريخيًا لم يُصنَّف الفينيقيون يومًا كعرب إلا عندما جاء البعثيون كردة فعل لشيوع موضة الأدلجة على أساس عرقي، كالنازية التي تمجّد العرق الآري الأبيض، والفاشية التي تتغنّى على نفس الوتر، ثم الشيوعية، فجاء العرب الذين كان أغلبهم نصارى، ليدندنوا نفس الدندنة، ومنهم ميشيل عفلق و صلاح الدين البيطار و زكي الأرسوزي و أكرم الحوراني و منيف الرزاز و أحمد حسن البكر.. واتفق كل هؤلاء على صناعة مجد للعرق العربي بجعله قومية تعجاوز مجد الاسلام وتتجاوز مفهوم الموروث الديني، فاستقى كل منهم شيئًا من الحضارات القديمة، وخرجت القرعة بـ"الفينيقية" بالنسبة للبعثيين. حتى إن العرب لم تتكلم يومًا في أشعارها الجاهلية والإسلامية أنها من حضارة كنعان (الشخص، لا الأرض التي تَسمّت كذلك.. والتي سكنها خليط عرقي)، أو صيدون والفينيقيين، ولا حتى الذين ثبت وجودهم في القرآن كسبأ.
وعن الفينيقيين هؤلاء، فإن هيرودوت في التواريخ، الكتاب السابع، يذكر أنهم قدموا من البحر الإريتري (والذي قد يُقصد به البحر الأحمر)، ثم استقروا في المشرق، فهو لا يتفق مع أحد منا في كنعانيتهم ولا ساميّتهم، ولم يخلط مؤرخو الرومان مثل سترابون وبلينيوس الأكبر بين الفينيقيين والعرب إطلاقًا، لأن في تلك الفترة، كانت تُسمّى العرب "الساراسين" أساسًا، فاسم "عرب" جاء متأخرًا جدًا، إذ كان الساراسين "العرب" بدوًا يرحلون في كل جزيرة العرب، بينما كان الفينيقيون تجّارًا بحارة مستقرين تمامًا، ولا لقاء بينهما.

وباختصار، الفينيقيون ليسوا ساميين وليسوا عربا، هم من بني حام، لكنهم ساميو الثقافة بحكم المسكن والتفاعل الحضاري.

فإن القول بأن الفينيقيين "ساميون" ثقافيًا، لا يعني أبدًا أنهم أقرباء للعرب، فهي مغالطة ناتجة عن خلط بين تصنيف لغوي حديث وبين نسب عرقي دموي مختلف بينهما..
هذا الخلط (غير البريء) يُغذي اليوم خطابات هوياتية تفريقية تمزيقية، منحازة معرفيًا، تهدف إلى التشويش على الشعوب المستقرة باستعمال التاريخ بشكل خبيث.. لخدمة أهداف سياسية أو ثقافية ترمي إلى تعميق الفجوات وإبعاد الأنظار عما هو أهم.

#عمادالدين_زناف #الجزائر

الاثنين، 2 يونيو 2025

الأمازيغ والفينيقيون كنعانيون من حام


▪️س: يا عماد الدين، من أين أتيت بأن كنعان هو ابن #حام؟ تعني أن الأمازيغ والفينيقيين (أبناء صيدون بن كنعان بن حام) ليسا من سام؟ ▪️ج: نعم.

 علمتني الحياة أن لا أذكر كل المصادر حتى يطلبها المشكّكون، لمَ؟ لأنهم يُلزمون أنفسهم بأنفسهم في كون المصدر هو الفيصل وليس شيء آخر..فلا يتبقّى لهم سوى الإقرار أو الفرار.

قائمة أعلام المؤرخين والكتب:

🔸الطبري - تاريخ الرسل والملوك
▪️المسعودي -مروج الذهب 
🔸ابن كثير - البداية والنهاية
▪️ابن حزم - الفصل في الملل
▪️ابن الجوزي - المنتظم
🔸ابن الأثير - الكامل في التاريخ 
▪️وهب بن منبه - التيجان في ملوك حمير
🔸ابن خلدون - العبر وديوان المبتدأ والخبر
▪️أبي الفداء - المختصر في تاريخ البشر
🔸العهد القديم

لاحقا سأنشر مقالة أبين فيها سبب الخلط بين نسب الكنعانيين والفينيقيين #الثقافي للساميين (نفس العائلة اللسانية) مع نسبهم #الأبوي لكنعان بن حام في الآن ذاته، وكيف تم استغلال هذا من البعثيين لأسباب 
ايديولوجية لخداع أمة (لا تقرأ) بأكملها.













#عمادالدين_زناف #الجزائر

السبت، 31 مايو 2025

المفصل عن كنعان.. للمُكابر والفهمان




المُفصّل عن "كنعـانْ".. للمُكابِر و"الفَهْمـانْ".
مقال عماد الدين زناف.

من العيب أن يجهل شخصٌ ما في عصرنا، وإلى حدّ هذه الأسطر، من هو كنعان وإلى من يُنسب، بالرغم من أن هذه الشخصية التوراتية –الجدالية في حقيقة وجودها وفي النظرة إليها– هي حديث الساعة. فكل من يملك هاتفًا بسيطًا يستطيع معرفة أنه ابنُ حام بن نوح عليه السلام في دقيقة واحدة، وسيعلم سريعًا أيضًا أنه لا وجود لكنعان بن سام، باتفاق المؤرخين جميعًا، محقّقيهم وكذّابيهم، عدا شذوذات صاحب كتاب الإكليل وغيره –من المجاهيل–، الذي ساق أكثر من شخصية باسم "كنعان" في تاريخه، لكن رأيه مُهمَل ولا يُعتدّ به حتى بين أكثر النسّابة خلطًا في الأنساب. فالصحيح إذًا أن كنعان من حام، إذ لا علاقة له بالعرب لا بالبائدة ولا العاربة ولا المستعربة، لأنهم جميعًا من سام بن نوح كما سترون.

سيقول أحدكم: ولكنهم يردّدون في كل مكان أن "مازيغ من أبناء كنعان، وكنعان هو أب صيدون والفينيقيين أيضًا، والفينيقيون عرب قدماء، إذًا الأمازيغ أو البربر عرب قدمـاء". أقول: لا تجادل هذا الصنف من الحمقى، الذي لا يعرف أصلًا عن ماذا يتحدّث، فأصحاب هذه الردود لا يعرفون كنعان ابن مَن، هؤلاء لا يزالون يعتقدون أن هناك شخصًا اسمه "كنعان بن سام"، بذلك لا يعلمون سبب حقد اليهو.د "الساميين" على الكنعانيين "الحاميين"، وإذا عرفوا ذلك أخيرًا.. صُدموا وصُعقوا، فمنهم من يُكابر بعد الصدمة كنوع من الاضطراب، لأن التراجع هنا يسبب لهم انهيارًا نفسيًا، ومنهم من سيصمت عن قضايا التاريخ ويقفز كالعصفور ليفتح بابًا جديدًا في "معاركه الدنكيشوتية"، أين لا يمكن أن يُفضح فيها بسهولة مثل قضايا "التاريخ".. أقول التاريخ بتحفّظ شديد طبعًا.
وقد قرأت، وما زلت من حين إلى آخر أقرأ لأحد هؤلاء النشطاء العروبيين المتشنّجين الدوغمائيين، في دولة خليجية، أنه يخجل من كلام هؤلاء العروبيين الذين يظنون أنهم يخدمون قضيتهم بتعريب كنعان، ويتصايح صباحَ مساء ليفهمهم أن العرب ليست من كنعان، ولا كنعان منهم، وأن كلامًا كهذا هو إلى الكفر أقرب! بل ووجب عليهم (بحسبته) أن يحقدوا على كنعان وذرّيته (أحفاد مازيغ وصيدون الفينيقيين)، ليؤازروا بذلك (بشكل مباشر أو غير مباشر) حقد اليهو.د عليهم، وذلك لأسباب توراتية سأدرجها لكم.. وكم ستصدمون منها.
عندما نريد أن نعرف من كنعان، فليس لنا إلا مرجع أساسي واحد، وهو العهد القديم، فمنه استقت العرب واليهود والنصارى وغيرهم من الملل، إذ لا مخطوط ولا نقيشة له أو عليه، ولا إشارة عنه في ميادين الأركيولوجيا جميعًا، وأن كل ما قيل في كتب التاريخ أساسه التوراة، فماذا قالت التوراة؟
نبدأ بالأساس، في سفر التكوين 9:18: "وَكَانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْفُلْكِ سَامًا وَحَامًا وَيَافَثَ. وَحَامٌ هُوَ أَبُو كَنْعَانَ." وهنا أيضًا 10:6: "وَبَنُو حَامٍ: كُوشُ وَمِصْرَايِمُ وَفُوطُ وَكَنْعَانُ."، فكما نرى، هذا النص يفصّل أسماء أبناء نوح عليه السلام، ويوضّح أن كنعان ابن حام، وكنعان والد صيدون أبو الفينيقيين جميعًا: "وَكَنْعَانُ وَلَدَ: صِيدُونَ بِكْرَهُ، وَحِثًّا"، ولا علاقة له بسام "أب العرب وغيرهم من الذين ألحقوا أنفسهم بسام". إن سفر التكوين ذاته، يبيّن في 9:22 أن سبب الخصومة بين أحفاد سام مع أحفاد أخيه حام، هو لعن سيدنا نوح لحام عندما اكتشف أنه قد نظر في عورته (أعتذر على ذكر هذا، لكن هكذا يقولون)، بذلك طالت لعنة نوح حام وذريّته جمعاء حسبهم، أي أبناء كنعان: "فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خَارِجًا." ثم حُكم على كنعان هذا جرّاء هذه اللعنة أن يكون عبدًا للساميين إلى الأبد، والمقصود بهم "اليهو.د" في هذا السياق: "فَقَالَ: «مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ»" وهنا كذلك: "وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ»".
وهذا الكلام، إذا فُهم على سياقه دون سفسطة السفسطائيين الجدد، فإن أرض كنعان التي تقابل "فلسطين وباقي الشام اليوم" حسب المؤرخين، لا يراها اليهو.د أرضًا أصيلة للكنعانيين أحفاد حام، بل يرون أن الكنعانيين من إفريقيا، أما إذا بقوا معهم، فلكي يكونوا خدمًا لهم لا غير، (وفي سياق آخر، يرون أن سمرة بشرة الأفارقة أحفاد حام حدثت من جرّاء لعنة أبيه)، وبهذا وجب أن يُطردوا من فلسطين لتكون كلها لهم، أي "لليهو.د" الساميين أحباب سيدنا نوح. وفي هذا السياق يُنازع في هذه الأرض (فلسطين والشام) العرب، ويقولون إنهم أسبق إليها، لأنهم بحسب الرواية التوراتية ذاتها ساميون أيضًا، إذًا لهم نصيبهم الوافر من الشام، وأن اليهو.د هم الملعونون الذين وجب ألا تكون لهم أرض يستوطنون فيها.. الشيء الذي يجعل اليهو.د ينسبون العرب الذين في فلسطين وكل الشاميين إلى كنعان، وجعلوهم دون وعي يرددون أنهم من كنعان، وروّجوا لمفهوم الفينيقية من جديد وضرورة الاعتزاز بها، لكي يُنسَبوا مباشرةً وبضربة واحدة إلى حام كي تطالهم اللعنة.. فإما الطرد إلى إفريقيا أو البقاء كعبيد. وهذا ما "استفاق" له أخونا الذي يسكن في عُمان الشقيق، وجعل يتصارخ بقوّة "أن الفينيقية مشروع يهودي بامتياز"، وهو محق في هذا.
الآن إلى النقطة المفصلية، فبعد أن أوضحت لكم نظرتهم في المدعو "كنعان" وقضية لعنة حام ومحبة سام، فهناك من فهم هذا جيدًا من سكان شمال إفريقيا، لأنه استرق السمع والبصر في معتقدات التوراتيين، فعوض أن يقول بأنها روايات توراتية لا مصداقية لها البتّة، راح يُصدّق بها ويستعرّ من "كنعان" ومن "حام" ليلتصق بالعرب وسام، وجعل نفسه عربيًا بالقوّة، حتى لو كان عربيًا لِحاقًا (أي بالانتساب القديم) لا أصالةً (بالنسب المتصل)، وجعل العرق العربي من أركان الإسلام حتى يحميه بشكل أكبر، أو تجد من راح ينسب كنعان وأبناءه برمّتهم إلى سام، لكي لا تطاله اللعنة التوراتية فحسب، ولكي تكون له قرابة عرقية كما هي دينية وسياسية مع الفلسطينيين، وهذا إذا أحسنّا الظن به. وبين هذا وذاك، لا أحد يتكلم بالقرآن ولا السنّة التي وجب أن نتشبث بهما.

▪️قل إنك من مازيغ بن كنعان، إن كنت كذلك، أو قل إنك من حام، وأتبعه بـ ”إذا صدق هذا النسب عند الله“.. ولا تبالي بأي جهول.

إن الله قد أراح المسلمين من كل هذا الجدال، وأراحهم بأن جعلهم لا يتحمّلون عبء الأولين كذلك حتى لو كانوا آباءً لهم، هذا إن صحت تلك اللعنات التي يروّج لها العبرانيون، حيث قال ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ الأنعام: 164 وقال سبحانه ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ البقرة: 134 ويقول سبحانه أيضًا ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلامُ يجبُّ ما قبلَهُ، والتَّوبةُ تجبُّ ما قبلَها) لما ألقى الله عز وجل في قلبي الإسلام، قال: أتيتُ النبي ﷺ ليُبايعني، فبسط يده إليّ، فقلت: لا أبايعك يا رسول الله حتى تغفر لي ما تقدَّم من ذنبي، قال: فقال لي رسول الله ﷺ: يا عمرو، أما علمتَ أنَّ الهجرةَ تجبُّ ما قبلَها من الذنوب، يا عمرو، أما علمتَ أنَّ الإسلامَ يجبُّ ما كان قبلَه من الذنوب. الراوي: عمرو بن العاص. ويجبّ ما قبله أي يمحيه كله، ولا يُحاسب المرء على دين أجداده، ولا تطاله أي لعنة لأن الله لا يظلم عباده.

أخيرًا، السلام عليكم.

#عمادالدين_زناف #الجزائر

الجمعة، 30 مايو 2025

الرد العلمي على ناكر أصل مازيغ الإفريقي




الرّد العلميّ.. على ناكر أصل مازيغ الإفريقيّ
مقال عماد الدين زناف.

ملاحظة سريعة: من يرى أن هذه المواضيع لا تروقه وأن الناس قد صعدوا إلى القمر وأنكم مازلتم في الأرض، عليه أن يتجاوز هذا المقال الآن دون أن يُتعب نفسه، أو أن يضع لنا اختراعاته أو مؤلفاته في العلوم والفلسفة.
_
قرأت مقالة لأحدهم، لا أريد ذكر اسمه حتى لا تصبح القضية شخصيّة، معروف عنه التعصّب لقبيلته وعرقه – لا مشكلة في ذلك – إذ هو يتّفق معنا في كثيرٍ من الأشياء، على رأسها أن مازيغ هو ابن كنعان بن حام، وأن الفينيقيين من حام أيضًا، يعني بذلك أنهم ليسوا عربًا لأن العرب جميعهم من سام. وهو يقرّ بأن أمازيغ ومازيغ هو الاسم الصحيح لهذا القوم، وأنهم ليسوا عربًا قدماء، لا الأمازيغ ولا الفينيقيون، ونحن نقرّ له حبه لثقافته العربية وأن نسبه يعود إلى أعرق هذه القبائل، ونضيف على ذلك أننا نحبهم، وأن كل العرب أهل جود وكرم إلا من شذّ، كما لا نقرّ في الآن ذاته أي نبرة تعالٍ من أي طرف على الآخر باسم العرق، إذ يقول المصطفى إنه لا فضل بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى.
موضوع هذه المقالة هو مناقشة الطرح "الذي سمّاه علميًا" وقد جاء ليتحدّى به الأمازيغ - على حد تعبيره -، وهو أن ينكروا "الحقيقة العلمية" أنهم جاءوا من فلسطين مع شخص يدعى إفريقش إلى شمال إفريقيا مع قبائلَ يمنيّة، وهم بذلك ليسوا أفارقةً أصليين.
رغم التقدّم الكبير في موضوع أصل الأمازيغ والفينيقيين، إذ قطعنا شوطًا كبيرًا نحو القول العلميّ بهذا الخصوص، مع تحرير واضح لمحلّ النزاع الحقيقيّ، واقترابنا من نقاط التوافق التي تجعلنا نعيش بذكاء تحت قبّة الوطن الواحد والإسلام الموحّد، إلا أن الرواسب القديمة لا تزال عصيّة على الاقتلاع عندَ هؤلاء، فهم يرونَ أن شمال إفريقيا لا يمكنها – ولا يجب – أن تكون مهدًا لشعب قائم بذاته، حتى لو أقرّوا أنهم ليسوا منه نسبًا، لأن هذه الحقيقة العلميّة تجعلهم يظنون أنهم ضيوف عليها، فيشعرون بشيء من النقص، والحقيقة التي نطبق نحن وهم عليها أن كل بني آدم ضيوف في هذه الأرض، في القارات الخمس التي نعلمها.
وللرد على هذه النكت اللطيفة التي جاء بها، عليّ أن آخذ من نصه أسطرًا لأناقش ما جاء فيها بشفافية.
يقول (ستكونون أمام حقيقة علمية كبيرة، وهي أن أصلكم من فلسطين، وهذا ينسف مقولة السكان (الأصليين لشمالي أفريقيا) فكيف يكون جدكم كنعان من أصول فلسطينية، ويكون ابنه مازيغ من أصول أفريقية؟).
الإجابة: في مقالك ادّعيتَ أنك ستتكلّم بعلمٍ، لذلك سألزمك بما ألزمت به نفسك، أين هو الدليل الأركيولوجيّ الحسّي، أو من القرآن والسنة، الذي يثبت أن كنعان قد وُلدَ وكبر في فلسطين أصلًا؟ أو أن حام قد وُلد في آسيا أصلًا، أو أن سيدنا نوح عليه السلام قد وُلد في آسيا أصلًا، وأكثر من ذلك، أين الدليل أن سيدنا آدم قد نزل في آسيا (الهند كما يُشاع)؟
الآن نحن أمام مُعضلة، أنت تبني نظريّة علميّة من لا شيء وتجعلها حجّة في الحوار، من قال لك إننا نُسلّم أصلًا على نظريّتك الأولى حتى تجعلها سلطة معرفية؟

بل إننا نقول كما يقول علماء الأرض جميعًا إن انبثاق البشرية جمعاء انطلق من إفريقيا، فصل من شمال إفريقيا وفصل من جنوب شرق إفريقيا، وهنا ستجد التفاصيل حول هذا https://www.facebook.com/share/p/1LV29WvcKu
والأصول شمال إفريقيّة من هنا https://www.facebook.com/share/p/1EFk8YR9M6
وقبل أن تقفز وتقول إنني مع نظرية وجود إنسان قبل آدم، لا، أنا لا أؤمن بهذا، بل أدرج كل ما قيل علميًا مع الدين وأقول إن آدم وباقي البشر انطلقوا من قارة إفريقيا، ومنهم كذلك سيدنا نوح وذريته، تقول لي ما دليلك؟ أقول لك الدليل ما قدمه العلماء من أبحاث، المطالب بالأدلة البديلة هو أنت.
لذلك، بما أنه لا يُعرف مكان ولادة كنعان بن حام، وبما أننا نعرف أن أصل البشرية من إفريقيا، إذاً المرجّح أنه من إفريقيا ورحل إلى فلسطين وسكن بها.
تريد أدلة أخرى؟ حام ولد مصرايم وكوش، الحضارة المصرية والنوبية، أليسا أقدم نظام ملكي فوق الأرض وهم من إفريقيا؟
انتظر لحظة، أليست نقوش طاسيلي ناجر في صحراء الجزائر شاهدة على وجود بشريّ قبل أكثر من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد؟ لا بل سأعود بك لأكثر من ذلك، ألم تثبت الأبحاث أن الثقافة العاترية والقبصية والوهرانية سبقت كل هؤلاء، التي قد تعود إلى أكثر من مئة ألف سنة قبل الميلاد..
أم أنك لا تصدق بالعلم وتُصدّق بما قاله الهمداني في سطرين عن إفريقش هذا دون أي دليل، في كتابه الإكليل؟
هل تعلم أن الهمداني صدّر فقرته "بيقال والله أعلم".. أم أنك لم تكن تعلم؟ (إذ يتّبعون إلا الظن)!
الدليل https://www.facebook.com/photo/?fbid=1296220189171869&set=pcb.1296220385838516
ثم تقول (فإذا كنتم من أصول أفريقية فهذا يعني أنكم لستم من مازيغ بن كنعان الذي أصوله فلسطينية، وعليه فإذا قلتم إنكم لستم أبناء مازيغ بن كنعان الفلسطيني، فإنكم ستخسرون الدليل التاريخي الوحيد الذي يجعل جدكم مازيغ مذكورًا منذ قرون، وبذلك تسقطون في مقولة (الأمازيغية جديدة وظهرت منذ قرنين))،
الإجابة: أوّلًا أصِّل ما "إفريقيا"؟ إذا كنت تقصد بها أنهم السود حصرا فأنت واهم ولا تعرف أصول المصطلحات والأسماء.
أولًا إفريقيـّة كان يُقصد بها شمال شرق القارة فقط، أي غرب ليبيا وتونس وشرق الجزائر، وبدأت التسمية مع الرومان، وأصل الكلمة باتفاق علماء اللسانيات هو من "إفري" أي الكهف، ومنها "آث إفرن" التلمسانيين، أو "أفرو" آلهة النوميد القدماء.
وأظنّك تعلم أيضًا أن الاسم الحقيقي للقارة هو "ليبيا" وليس "إفريقيا"، لأنها نسبة حديثة جدًا في اشتمالها لكل القارة.
ثم تعال، لأنك احتججت بابن حزم وجعلته مصدرًا معتبرًا، أليس هو الذي قال، في كتابه جمهرة أنساب العرب، الصفحة 495، "أن البربر من حام، وأنه قد ادّعى طائفة منهم أنهم من حمير، وكل ذلك باطل لا شك فيه، ولا كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن" (الذين تجعلهم حجة علمية!!)
المصدر: https://www.facebook.com/photo/?fbid=1286025780191310&set=pcb.1286026150191273
بهذا تسقط حجتك أننا من فلسطين أو من اليمن، دون إقامة أي اعتبار لمن سميته إفريقش لأننا نتكلم هنا عن شخصية وهمية نترفّع عن الإطالة فيها.
قولك (قلتم كما نقول نحن أن الأمازيغية قديمة وهي نسبة إلى مازيغ بن كنعان، فيجب أن تعترفوا بأن أصولكم كنعانية من فلسطين، وأنكم انتقلتم إلى أفريقيا ولستم أول من سكنها).
الإجابة: علميًا، حدث العكس، انتقل الأفارقة إلى آسيا، وأن ابن حزم ينفي الرحلة العكسية من آسيا إلى إفريقيا، كما سلف الذكر. انتهى.
تقول (يجب أن تعترفوا بأنّكم أنتم والفينيقيين لستم من الحميريين العرب القحطانيين الذين جاؤوا مع أفريقش من اليمن، وأنكم من الفلسطينيين الذين حين وصل أفريقش إلى بلاد الشام وجدهم منكسرين بعد أن هزمهم يوشع بن نون عليه السلام، وهو خليفة موسى الذي دخل ببني إسرائيل أريحا وفلسطين وطرد الكنعانيين. وكلام ابن خلدون وابن حزم واضح في هذا، قال ابن خلدون في العبر: (قال ابن حزم هو أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحارث الرائش، وهو الّذي ذهب بقبائل العرب إلى إفريقية، وبه سميت. وساق البربر إليها من أرض كنعان، مرّ بها عندما غلبهم يوشع وقتلهم، فاحتمل الفلّ منهم، وساقهم إلى إفريقية).
الإجابة: لا يجب على من يدّعي الكلام بعلم أن يبتر النصوص وهو يعلم أن المؤرخين والنسابة يسوقون ما قيل ثم إما يعمدون إلى إثباته أو نفيه، وفي هذه الحالة، أنت وأنا أصبحنا نعلم أن ابن حزم ساق هذا الخبر ثم كذّبه، كذلك فعل ابن خلدون، الذي قال إن كل هذا عبارة عن أخبار واهية من الأساطير، فلمَ أخفيتَ هذا وتركت الجزء الذي يوهم أنه هو صلب كلامهم؟
وإليك الدليل:
ابن حزم https://www.facebook.com/photo/?fbid=1296220232505198&set=pcb.1296220385838516
نفي ابن خلدون لهذه الأساطير:
https://www.facebook.com/photo/?fbid=1296220262505195&set=pcb.1296220385838516
وهنا https://www.facebook.com/photo/?fbid=1296220315838523&set=pcb.1296220385838516
وهنا https://www.facebook.com/photo/?fbid=1296220345838520&set=pcb.1296220385838516
وأخيرًا تقول:
(وعليه، فالذين دخلوا مع أفريقش عرقان: عرق عربي خرج مع أفريقش من اليمن وهو من حمير. وعرق كنعاني من كنعان جد الفينيقيين والمازيغ، وجدهم أفريقش في الشام في طريقه إلى أفريقيا، وقد خسروا الحرب مع يوشع بن نون، وفيه دليل أن الشعب الفينيقي المازيغي دخل أفريقيا مع أفريقش في زمن يوشع ويوشع كان مع موسى عليه السلام ثم خلفه، وهو موجود 1300 سنة تقريبًا قبل الميلاد.. فإذا سلّمتم لنا بهذا، ولا يمكنكم إلا أن تسلّموا، فهذا يعني وبعيدًا عن الخرافات، أنّ دخولكم إلى أفريقيا كان مع أفريقش العربي، وبالتالي تسقط عبارة (السكان الأصليين) لأنكم دخلتم مع أفريقش وقبائل اليمن في زمن واحد.. وعليه، فمن دخل مع أفريقش من السكان الأوائل في أفريقيا هم: قبائل حمير اليمنية العربية. وقبائل كنعان التي تفرعت إلى فرعين، فرع مازيغي وفرع فينيقي.. إنّ هذه المعطيات العلمية تعيد تركيب الصورة بطريقة مغايرة..)
أولًا لا نسلّم لك بأن إفريقش شخصية حقيقية دون دليل أركيولوجي علمي ساحق ماحق، لذلك فنحن نردّه بضربة واحدة، كما نفى ابن حزم أي رحلة حميرية إلى شمال إفريقيا.
لذلك ما جئت به بعد هذا لا نسلّم به تمامًا بل ونضحك عليه حدّ القهقهة في بعض الأحيان.
أما قولك إن كنعان تفرّق منه بنو مازيغ والفينيقيين فلا إشكال عندنا، وكلاهما من قارة إفريقيا الأم، ونعتقد أن رحلات الإنسان الإفريقي كانت قديمة كفاية ليستقر بآسيا وتصبح له مسكنًا ومنبعًا لحضارة مستقلة عن أمه، هذا كما يقول العلم، حتى إذا لم يثبت أصلًا وجود شخص اسمه كنعان سوى في العهد القديم الذي لا أدري إن كنت تُصدّق بما فيه أو تكفر به..
لكننا لا نعسّر عليكم الأمر..
وقولك إنها معطيات علمية في آخر كلامك يجعلنا نفكّر مليًا في ماهية العلم عندكم؟

لست أنكر أن المصدر النقلي من مصادر المعرفة الثلاثة بعد المصدر الحسي والعقلي، لكن المصدر النقلي إذا لم يكن خبرًا صادقًا كما اتفق عليه المسلمون مثل (القرآن والسنة) يصبح في صنف الرواية والقصة..
ما الفرق بين قصة إفريقش والإلياذة والأوديسة؟
لربما تؤمنون بزيوس أيضًا؟
وفي الأخير، السلام عليكم.

#عمادالدين_زناف #الجزائر

الأربعاء، 7 مايو 2025

القواعد الأصولية في إباحة أكاذيب المرويات




القواعد الأصولية في إباحة أكاذيب المرويات التاريخية.
مقال عماد الدين زناف، مرفق بالمراجع.

هل نسأل لمَ يصدّق الناس أساطير أصول البربر أنهم من اليمن؟ وأن التبابعة بلغوا الصين وأسسوها.. وأن افريقش شخصية حقيقية؟ -أم نسأل أولا كيف تساهل العلماء مع الروايات التاريخية ما لم تمسّ المقدّسات الدينيّة، القرآن والحديث؟ 
الباحث الحقيقي لا يلوم الناس، بل يلوم ما هو سلطة معرفية على هؤلاء الناس. 
إذا، كيفَ أصّلوا لذلك حتى صارت الأساطير جزءًا من المقدسات في التاريخ، التاريخ كعلم، وكذا هي تهزم العلم المجرّد كذلك.   

الرواية كنوع أدبي تبتلع عديد التخصصات في قالبٍ واحد، فالروائي أو القاص يعتمدُ الشعر  والحكم الشعبية والفانتازيا والدين وشيء من العلم وشيء من القيل والقال لصناعة تركيبة مُجملة تهدف إلى غايات تختلف من مؤلف إلى آخر، فقد يكون الهدف في حدود الرواية فقط، أي للمتعة الخيالية، وقد تتعدى ذلك إلى صناعة رواية عِرقية ووطنية وقومية لهدفٍ سياسيّ توسّعي "امبرياليّ". 
أما التاريخ فلا يُمكن أن يكون ضمن الرواية، حتى وإن كان المؤرخ في نهاية المطاف هو عبارة عن راوٍ، لكنه لا يروي بهدف الرواية، ولا يسمى روائيًا بالمفهوم الأدبي، لأن كاتب التاريخ حصر نفسه في علم قائمٍ بذاته، يخضع لضوابط. إذ أن المؤرخ مُلزمٌ بإثبات ما ينقله، ملزم بالإستناد على ما قرّره كبار المؤرخين الذين لاقاهم المجتمع العلمي بالقبول، ملزم بأن لا يتجاوز آخر مقررات العلم الأركيولوجي، وعديد الإلزامات التي تخرج عمله من مجال الرواية والقصة، إلى عمل علمي محض. ونحن نعلم أن هذه الشروط، لم تكن متوفّرة في القرون الماضية، بل وحتى ما كان متوفّرًا لم يكن مُحترمًا لأن الضوابط العلميّة لم تكن محلّ إجماع، فعلم التاريخ كان يعتمد في أغلبه على موثوقيّة معارف المؤرّخ ذاته، أي أن التاريخ رهن تعديل العلماء للشخص، والأخذ منه، أو تجريحه والإلجام عنه، ديـنًا ومعرفةً.  
بالتالي، فإن عملية التأريخ إلى وقتٍ قريب جدًا، كانت رهن موثوقيّة الشخص لا العلم بذاته، وهذا الشيء في ظرفنا الحالي، أصبحَ محلّ مراجعة، لأن عديد المؤرخين السابقين عرفوا بالموثوقية وحسن الديانة والسيرة والسلوك، لكنهم تناقضوا في سردهم لتاريخ شيءٍ أو أشياءٍ معيّنة، ومن غير المعقول أن يكونَ جميعهم محقّين وهم متناقضون في سرد الأحداث، فالتصويب هنا وجب أن يتجرّد عنهم جميعًا دون الطعن في ذاتهم، لأننا كما أسلفنا الذكر، "حسن السيرة" تزيح عنهم أسلوب "الكذب العمدي" والله يعلم ما في الصدور. 
حسنًا، بعد هذه المقدمة الطويلة، هل كل ما بلغنا من المؤرخين صحيح؟ لا، وبشهادة المؤرخين أنفسهم، وسأدرج بعض المراجع في هذا الصدد، ذلك أن التاريخ عكس القرآن والحديث والفقه، كان وما زال فيه باب واسع "للتمادي" في السّرد إذا لم يكن باسم المقدّس، ويحتمل –كما قلت- كل الموروث الإنساني – صحيحه وسقيمه-. 

في كتاب "مناهج المحدّثين في نقد الروايات التاريخية للقرون الهجرية الثلاثة الأولى"، يقول المؤلف، "يعد المؤرخ رشيد الدين فضل الدين الهمذاني أن التساهل لابد منه في الرواية التاريخية وإلا لا يمكن لأي مؤرخ كتابة تــاريخ أي أمة مهما كان هذا التاريخ". يقول "لو ذهب المؤرخ إلى وجوب أن يكون كل ما يكتبه مقطوعًا بصحّته فإنه لا يستطيع أن يكتب تاريخ أمّة". وأدرج "لأن أكثر ما ينقل إليه إنما يكون لغير المتواتر من الأخبار". هنا لا أعتقد أن حديثه يحتاج شرحًا، باختصار، يقول أن المؤرخ الذي يلتزم شروط الصحة لن يجد الكثير ليكتبه.  ثم يسهب قائلا "ويذكر الخطيب عن بعض أهل العلم أن الخبر إذا ورد ولم يحرّم حلالا ولم يحلّ حراما ولم يوجب حُكمًا وكان في ترغيب أو ترهيب أو تشديد أو ترخيص وجبَ الإغماض عنه والتساهل في روايته، وهذا الأمر يكاد يكون موضع إجمــــاع من لدنّ جميع أهل العلم،" " وبما أن الروايات والأخبار التاريخية في غالبها لا تتعلق بالعقيدة أو الشريعة، نرى أن أئمة الحديث والتاريخ تســـاهلوا في أسانيدها، ورووا منها ما كان في إسنادها انقطاع أو ارسال، كمـا رووا عن بعض المتّهمين عندَ علماء الحديث". فالواضح أننا نرى أن الأئمة تساهلوا في روايات المطعون في دينهم، وحديث حالي يقول.. كيف يمكن أن نثق في قصص من لم يتورّع في أقدس مقدّس وهو الدين؟ فإذا لم يخشى الله في دينه، فهل سيتورّع في التاريخ؟ غريب جدًا بل وصادم.
يقول "فالأئة الثقات من المؤرخين كمحمد ابن اسحق والخليفة بن خياط وابن سعد والطبري وابن كثير نجدهم يروون كثيرًا من الأخبــار المُرسلة والمنقطعة". المرسل هو الشيء الذي يبلغ بلا سند ولا استماع من شخص بعينه، والمنقطع هو الذي يكون فلا عن فلان ويقف عند فلان ولا يصل بسنده (رجل عن رجل) إلى الأصل، أي المحدّث الأول به. 
في الكتاب الثاني "السيرة النبويّة الصحيحة، محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية".  يقول "ضرورة المرونة في تطبيق قواعد المحدثين في نطاق التاريخ الإسلامي العام. يقول، لا شك أن اشتراط الصحة الحديثية في كل رواية تاريخية نريد قبولها فيهِ تعسّف، لأن ما تنطبق عليه هذه الشروط لا يكفي لتغطية عصور مختلفة للتاريخ الإسلامي، مما يولد فجوات في تاريخنا". أي إذا اشترطنا الأمور الصحيحة فقط، بقي في التاريخ فجوات وفراعات كبيرة" يعني يجوز سدّها بالكذب. 
ويقول " وإذا قارنا ذلك بتواريخ العالم فإنها كثيرا ما تعتمد على روايات مفرغة أو مؤرخين مجهولين". مثل الإليادة.. فعلمائهم وكثير من علمائنا يرخصون هذا. يكمل" بالإضافة إلى ذلك فهي مليئة بالفجوات، لذلك يكفي في الفترات اللاحقة التوثق من عدالة المؤرخ و ضبطه لقبول ما يسجّله مع استخدام قواعد النقد الحديثة في الترجيح عند التعارض بين المؤرخين."
في الكتاب الثالث "صحيح تاريخ الطبري" يقول " أولا، أما اشتراط الصحة الحديثيّة في قبول أخبار تاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسف كثير". ويقول "والخطر الناجم عنه كبير، لأن الروايات التاريخية التي دونها أسلافنا المؤرخون لم تعامل معاملة الأحاديث بل تم التساهل فيها، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستشكل هوّة سحيقة بيننا وبين ماضينا ما يولّد الحيرة والضياع والتمزّق والانقطاع". هل يحتاج هذا شرحًا؟ لا. 
الكتاب الرابع " مجلّة جـامعة الشارقة، دورية علمية محكمة للعلوم الشرعية والقانونية". يقول المؤلف " تســـاهل المحدثين في رواية الأخبار التاريخيّة وضابطه، يذهب الكثير من الكتاب والباحثين والوعاظ والدعاة إلى أن من نهج المحدثين التساهل في رواية أخبار السيرة وسائر الأخبار التاريخية وهدا معلوم، لكنه منضبط بضابط مهم وهو ألا يندرج تحتها أحكام شرعية أو قضايا عقديّة أو ما يتعلق في الكلام في الصحابة وعدالتهم".    إلى حد الآن، نرى أنهم جميعا يبيحون الكذب ما لم يكن ذلك في الدين. يقول فيما معناه أن قبول رواية المؤرخ تكون في حال لم يتم تجريحه والكلام عن عدالته، والحقيقة أن هذا المؤلف قد وقع في الوهم، لأن حتى المطعون في عدالته قبلوا رواياته لأنها لا تمس الدين. 
الكتاب الخامس "معالم منهج المحدثين في التعامل مع الروايات التاريخية" عند عماد الدين خليل.
يقول " ولهذا نرى فرقا واضحا في تطبيق قواعد النقد بين الحديث والروايات التاريخية، فاشتراط الصحة الحديثيّة في قبول أخبار تاريخيّة التي لا تمس العقيدة والشريعة في ذلك تعسّف كبير ، والخطر الناجم عنه كبير، لأن الروايات التاريخية التي دونها عماد الدين خليل وحذّر من خطورة الأخد بالطعن الصادر عليها بسبب التشيّع أو التمذهب دون الرجوع إلى أهل الحديث لتنقيح تاريخنا من الدسائس والسموم وسيل الروايات الموضوعة الصادرة عن أهل البدع والشهوات والحاقدين على الإسلام. أما سوى ذلك من الأحداث فيمكن التساهل فيـــــها في جمعه بشرط عدم التناقض."
الكتاب السادس " الإسناد وأهميته في نقد مرويات التاريخ الإسلامي"   لعبد الله خلف الحمد، يقول " وينبغي ألا يتبادر على الذهن أننا حينما نؤكد على المرونة في التعامل مع مرويات التاريخ الإسلامي أننا نريد أن نداري الانحرافات التي وقع بها بعض أفراد أو قادة المسلمين أو نتلمس المعاذير الواهية في تبريرها، مـا ينبغي للمؤرخ المسلم أن يفعل ذلك، فالتاريخ أمانة وشهادة  تؤدى لا يؤثر على آدائها حب أو كره".  "كما أننا حينما نشير إلى قبول الرواية فإن هذا لا يعني الرواية عن المعروفين بالكذب وساقطي العدالة، وإنما نقصد بالتساهل إمرار أو قبول رواية من ضعف ضبطه بسبب الغفلة أو كثرة الغلط والتغيير والاختلاط."
هكذا كما قرأتم، عندما يُعرف السبب يبطل العجب، فهذه المؤسسة التي ساهمت في تمرير الخيال والأسطورة لسد ما يسمونه فجوات وفراغات تاريخية، هو سبب ما نعيشه اليوم من تراشق وفتن، لأن المؤدلجين يستطيعون القسم بوضع يدهم فوق كتب التاريخ تلك بكل ثقة، عوض القسم بكتاب الله.. ذلك أن بعض العلماء –سامحهم الله- هم من ساهموا في انتشار هؤلاء النابتة المقبّحين. 

#عمادالدين_زناف

الجمعة، 25 أبريل 2025

سلطنة بِجاية واستقلالها عن الحفصيين


بجاية.. سلطنة الاستقلال في قلب الدولة الحفصية

بجاية، المدينة العريقة التي اشتق اسمها من قبيلة بربرية محلية، كانت تُعرف قديماً باسم صالداي. تقع بجاية في قلب الجزائر، ولم تكن يوماً سوى جزائرية، منذ أقدم العصور. فقد كانت جزءاً من مملكة الماسيل، ثم المملكة النوميدية، قبل أن تتقاسمها قبائل الحلف الخماسي، حيث حكمها عدد من الملوك والأمراء المحليين، من سلالة الملك الأمازيغي الشهير نوبل، من قصره المعروف بـالبتراء في بجاية.

ولا حاجة للإطالة فيما هو معلوم من تاريخ بجاية في عهدها الكُتّامي خلال الحقبة الفاطمية، ثم في عهد صنهاجة خلال الحكم الزيري، ولا في كيفيات بروزها كعاصمة سياسية وثقافية وعلمية للدولة الحمادية في المغرب الأوسط، بعد انتقال مركز الحكم من قلعة بني حماد بالمسيلة، زمن السلطان الناصر بن علناس، حتى أصبحت تُعرف بـ"الناصرية" نسبة إليه.

كما كان لبجاية دور محوري في نشوء دولة الموحّدين الجزائرية، حين التقى ابن تومرت بالتلمساني عبد المؤمن في قرية ملالة البجاوية، فانطلقت منها شرارة الدولة الجديدة. ولم تكن بجاية، حتى ذلك الحين، تعرف طريقاً إلى تونس، إلى أن سقطت الدولة الحمادية وتوزّعت البلاد بين دولٍ جديدة: المرينية في أقصى الغرب بأصولها الزابية الجزائرية، والزيانية في تلمسان، والحفصية في أقصى الشرق. وفيما بينها نشأت سلطنة بجاية، وهي موضوع هذا اليوم، الذي يُسقط أوهام البعض ممّن يحاولون استغلال الحقبة الحفصية لربط الشرق الجزائري بتونس — ويا للعجب، فالحفصي نفسه لم يكن تونسيّاً، بل لم يبق فيها ساعة حتى تعود مستقلة!

ولا يعلم كثيرون أن الدولة الحفصية كانت من أكثر الدول هشاشة واضطراباً سياسيًّا، فكان حكّامها جالسين على الإبر، لا يستقر لهم حال. في هذا السياق ظهرت سلطنة بجاية المستقلة، ككيان سياسي قوي منذ أواخر القرن الثالث عشر. وقد تأسست سلالتها الأولى على يد أمراء حفصيين متمرّدين على السلطنة الحفصية، التي تمركزت في بدايتها بتونس. هؤلاء الأمراء أسّسوا، بين الزيانيين والحفصيين، مملكة مستقلة حقيقية، عرفت فترات من الانفصال المتقطع، لكنها متقاربة ومتكررة.

وجد أمير بجاية نفسه على رأس مدينة ذات شأن ومكانة مرموقة؛ فهي عاصمة الحماديين القديمة، صاحبة هوية سياسية راسخة، وموقع جغرافي بحري استراتيجي جعلها بوابة المغرب الأوسط على البحر المتوسط. وقد كانت دوماً بعيدة عن مركز الحكم الحفصي في تونس، وغير معنية بما يدور هناك من صراعات. هذا البعد ساهم في نضج نزعة التمرّد، خصوصاً في فترات النزاع على الخلافة بين الأمراء الحفصيين أنفسهم.

وعند الغزو الإسباني، كان أمير بجاية ينتمي إلى سلالة آثب-عياد القادمة من منطقة الحضنة. واللافت أن حكّام بجاية وقسنطينة أسهموا بشكل كبير في إضعاف السلطة الحفصية، من خلال نزعتهم المستمرة إلى الاستقلال تارة، ومحاولاتهم المتكررة لضمّ تونس وساحلها إلى سلطنتهم تارة أخرى. فهؤلاء ينحدرون من سلالات حمادية ملكية، بخلاف تونس التي لم تعرف حُكماً محلّياً خالصاً.

هكذا، شهدت بجاية (ومعها قسنطينة) فترات استقلال بارزة خلال العهد الحفصي، تبادل خلالها البجاويون والقسنطينيون حكم السلطنة. وأبرز هذه الفترات كانت:

من سنة 1285 إلى 1309
ومن سنة 1312 إلى 1318
ثم من سنة 1358 إلى 1510

أي أن أغلب الحقبة الحفصية عرفت بجاية فيها لحظات من التمرد والانعتاق، مما يعكس مكانتها كعاصمة للغرب الحفصي، ومهدٍ للسيادة المتمرّدة.

ومن أبرز حكّام بجاية المستقلين، من جعل منها ميناءً مغاربياً هاماً، موصولاً بعلاقات تجارية وعلمية واسعة في المتوسط.

ولا ننسى أن في عروش تونس نفسها، أُضيف عرش بجاوة، نسبةً للبجاويين الذين استقروا فيها، وهم معروفون بالاسم واللقب، إضافة إلى المقرانيين، الذين ظلوا يعتزون بجزائريّتهم ويُقرّون بها علناً، مهما حاول البعض تحوير التاريخ.

المراجع
































الأربعاء، 23 أبريل 2025

تلخيصي لكتاب شروط النهضة - مالك بن نبي

 


ملخّصي لكتاب "شروط النهضة" لمالك بن نبي (دون أي تعليق أو تعقيب مني):

في البداية، تحدّث عن إلزامية وجود الرغبة في وعي الفرد بأن يُخلّد تاريخ حضارته، ويبعث روح خلودها في المجتمع، وأن يقاوم ليس لكي يتحرّر فحسب، بل لكي يبقى. وأعطى على ذلك مثالًا بالأمير عبد القادر، وذكر أن آخر من جسّد ذلك هو عبد الكريم الخطابي، ثم اختفت تلك الشعلة حتى برز مجدّدون للفكر الإسلامي مثل جمال الدين الأفغاني بأفكار أخرى للنهوض.

يقول إن صوت جمال الدين وأتباعه قد بلغ مسامع الجزائريين الذين كانوا في كسل حضاريّ بعد شعلة الأمير عبد القادر. وقد بدأت أولى بوادر الإصلاح من قسنطينة على يد الشيخ صالح بن مهنا سنة 1898، لكن تفطّنت لها السلطات الاستعمارية وفرّقت شمله وصادرت مكتبته. ولم تُبعث هذه الروح إلا في مطلع سنوات العشرين، عندما بدأ ابن باديس في نشر الوعي الحضاري، وانتقلت أسطورة العمل الفردي التي كان ينتظرها الشعب الخامل، كتكرار لتجربة الأمير عبد القادر، إلى عمل توعوي جماعي يشارك فيه الجميع. وبدأت تنتشر فكرة الابتعاد عن الزوايا والتقرب من المكاتب العلمية، والابتعاد عن الخمّارات والاقتراب من الحوزات الثقافية.

ورغم تبنّي هؤلاء المصلحين لتوجهات مختلفة، كمن كان يتبع المذهب الوهابي، وآخرين يتبعون منهج التعليم المدني، فبين الشاشية والقبعة، اتفق الجميع على التحرك ثقافيًا. لكن هذا كان في الفترة الأولى، قبل أن تُفسد الغايات السياسية ما أصلحته الغايات المعنوية.

عرفت الفترة الثانية من العمل الإصلاحي مرحلة سوداء أخلطت الأوراق، فقد انتقل المصلحون من روح الأمة إلى دهاليز السياسة وصناديق الانتخاب، حيث تُوّج ذلك بخطوتهم إلى باريس للتحاور، متناسين أن نجاحهم الأول كان في الابتعاد عن فخ التسييس والتحزّب. ولم تكن الجزائر وحدها من أُصيبت بحمى التحزّبات، فقد نشأت هذه الطريقة في كل العالم الإسلامي حتى أصابتهم بالركون والخمول من جديد. فهي عملية تُولّد التنافس، لكنها لا تبني الوعي، وبذلك تقهقر العمل الإصلاحي، على الأقل في جانبه المعنوي.

يقول إن سبب تقهقر الوضع العام في الفكر الجمعي الجزائري هو انتشار الجهل الذي كان ينبثق من الزوايا التي لم تكن تُحيل الناس إلى العلوم، حيث سمّى أتباع الجهل بالوثنية. فوضع مقارنة بالفترة الجاهلية التي سبقت الإسلام، إذ إن الجهل فيها أدى إلى شيء ساذج وهو عبادة الأوثان، وأسقطه على واقع الجزائر إلى غاية 1925م، إذ قال إن السذاجة التي كانت منتشرة تشبه وثنية الجاهلية، لأنها تُعتبر عبادة عن جهل. فبدأ هذا الشيء في الزوال عندما ابتعد الناس عن الدروشة وانتقلوا إلى مستويات أعلى. لكن، وكما ذكر، وقع المصلحون في الشيء الذي حاربوه، وانتقلوا من زوايا الدروشة إلى زوايا ذات طابع سياسي، وانتقلوا من الحروز التي سحرت عقول الناس لقرون، إلى حروز أوراق الانتخابات، فانتقل الناس من تصديق معجزات الدراويش الكاذبة إلى تصديق معجزات حزبية سياسية كاذبة.

انتقلت الجزائر من دروشة قديمة إلى دروشة جديدة، من صنم الجهل إلى صنم السياسة، من خرافات الشيوخ إلى خرافات السياسيين. فقد تناسى المصلحون أن المستعمر ما كان ليحتل شعبًا لا يحمل في روحه قابلية للاستعمار، وأن خلع تلك القابلية لا يكون إلا بعلاج الروح، وليس بالبهرجة والجاوي الخرافي من جهة، والسياسي من جهة أخرى.

إن فخ ولوج السياسة وخطاباتها نقل لسان المثقفين من الشعور بمسؤولية النهضة وتقييم الفكرة والدفاع عنها، إلى مجرد "كاسيت" لأشخاص يلوون ألسنتهم ليطالبوا بحقوقهم. فانتقل الفرد من السعي لإقامة واجباته إلى المطالبة بحقوقه، في ظلّ ما تسمح به السياسة والظروف. فعاد الناس إلى الوثنية، في تقديس وتملّق من يطالب بحقوقهم، وتخلّوا عن القيام بواجباتهم.

اختلفت الرؤية عند المصلحين المسلمين؛ فمنهم من كان يرى الإصلاح ضمن السياسة كجمال الدين الأفغاني، ومنهم من كان يراه خارجها، بالوعظ وتصحيح العقيدة كتلميذه محمد عبده.. وكلاهما لم يُعالجا المرض، بل كانا يتحدّثان عن أعراضه. لأن الشعوب المسلمة المعتلّة كانت تعاني من خليط من الأمراض: الاستعمار، والأمة، والكساح العقلي.. فلا يمكن بحال اختيار دواء واحد لعدة أمراض.

لم يكن من العقل أن نضع ستارًا بين حضارتنا الفتية التي تصنع نفسها، وحضارة مكتملة تحوطنا من كل اتجاه. فكان علينا لزامًا الاستعانة بها واستخدامها دون الغوص فيها، ففي كل الحالات، هي في بيوتنا وحجراتنا.

وبما أن التاريخ يعيد نفسه، فعلينا إلزامًا تحديد مكانتنا من التاريخ لنعرف من أين تبدأ النهضة. فالحلول التي تأتي بإغفال مكانة الأمة ومركزها الحالي لن تؤتي نفعًا، وكذلك تلك التي تُستورد من الغرب، فهي جهل وانتحار. فطريق النهضة كطريق السفر، يجب فيه معرفة الوجهة ومعرفة الزاد اللازم. يقول: الحضارة كالشمس.. تتنقّل وتُضيء الشعوب، والسُذّج هم من يقولون: "يا شمس قفي".

ما من حضارة إلا وتستمدّ نورها من وازعها الديني كنقطة انطلاق. لذلك كانت جزيرة العرب قبل نزول الوحي منطقة قفار، فيها عامل البعث الحضاري وهو الإنسان والتراب والوقت، لكن أهم عامل، وهو الروح، كان غائبًا عنها. لذلك لم تُقِم شيئًا. وعند نزول الوحي، انقلب فَس هؤلاء البدو والرعاة إلى نور يشعّ.

ولكن عندما فقدت الأمة شعلة الروح الأولى، في ليلة معركة صفّين، انتقلت أو لنقل عادت من سموّ الروح إلى العقل والتخطيط والمنفعة. فتقهقرت إلى المادّة ونسيت أصل البعث الحضاري الذي يقابل هذه المساعي الجديدة. فقد كان نور الإيمان يطفو ويشعّ فوق رؤوس الناس مؤثرًا حتى بلغ منتهى الأرض، من الصين إلى المحيط. وعندما فقد براءته الأولى، راح ينزل شيئًا فشيئًا إلى الأرض، فامتزج بالمادة، ولم يعد تأثيره كما كان. وهي نفس مراحل المسلم الذي بدأ مؤمنًا وانتهى إنسانًا بدائيًا... أي أنه انتقل من الفكر إلى السياسة بلغة العصر.

لم تعرف الماركسية شيوعًا إلا من مبعثها المسيحي عند الناس، وإن لم يكن ماركس نفسه مسيحيًا، لكن الفكرة ما كانت لتنتشر عند المسيحيين لو لم يجدوا لها مصوّغًا دينيًا. وإن المسيحية لم تستطع التوغّل بين اليونان والرومان وغيرهم من المتشبّعين بحضاراتهم وفكرهم، بل فعلت ذلك عند قبائل الجرمان، الذين كانوا بدائيين حتى نزل عليهم هذا المعتقد الذي أعطاهم شعلة حضارية أناروا بها أوروبا، وبنوا على أثرها معابد القوط، وأسسوا السلالات مثل الكارولنجيين والميروفنجيين.

باقي الأفكار لا يمكن تلخيصها لأن مالك بن نبي شرع في الاستشهاد بعلماء الاجتماع الغربيين بشكل متتابع لصفحات طويلة، لذلك يستحيل بتر فكرة عن سياقها العام، وبهذا وجب العودة إليها نصًا لا تحليلًا.

عماد الدين زناف 

فضل الجزائريين على المغرب الأقصى

 شهدت مملكة مراكش خلال النصف الأول من القرن العشرين حضورًا لافتًا لعدد من الشخصيات الجزائرية التي ساهمت في تكوين النخبة السياسية والإدارية  داخل دهاليز المخزن.  وقد عرف تأثير الجزائريين أوجّه في حكم محمد الخامس بن يوسف، وذلك بشكل مباشر. .. لكن الأمر غير جديد، فهذا التقليد قديم  فقد تجسّد في عديد المرات، خاصة فيما يخصّ الإفتاء والتأريخ، وتحديدا  في مدينة  فاس. فقد شغل التلمساني محمد بن مرزوق الخطيب عند بني مرين وكان كاتبهم.. وكذلك فعل عدد كبير من الجزائريين  خاصة  في فترة إيالة الجزائر، ونذكر منهم   أحمد الواعواني ومحمد بن عزوز الديلمي ومحمد بن محمد العباسي وابن جلال المغراوي وابن الكماد القسنطيني ومحمد بن عبد الكريم الجزائري وسعيد المنداسي.. لكن يبقى أشهرهم أبو العباس أحمد الونشريسي في فاس، بعد خروجه من تلمسان، أصبح أحد كبار الفقهاء المالكية في فاس،مرجعًا فقهيًا فيها الى أن قتله السعديون. وكذا المؤرخ والفقيه المقري التلمساني، الذي تولى مناصب علمية وقضائية مهمة في المدينة وكان له تأثير على الفقه والقضاء هناك.   وكانت تلك تبعات الغزو السياسي السابق لمغراوة وبني يفرن والمرينيين والموحدين، فقد كان الجزائريون  في السابق يرون في المغرب الأقصى امتدادا لأطماعهم التوسعية. ومع بداية الغزو الفرنسي للجزائر، في مطلع القرن العشرين، رحل عدد كبير من الجزائريين الى المغرب الأقصى خاصة الى تطوان، وجلبوا معهم كل ثقافاتهم ومعارفهم، حتى تدرجوا في الأسلاك السياسة وصارت لهم قربى بمركز القرار. وقد كان محمد أرزقي بن ناصر من أبرز علماء الجزائر التي تولى الإفتاء على المذهب المالكي، وترك أثرًا فكريًا امتد إلى المغرب  كان من  تلامذته  محمد بن يوسف الشاب الذي سيصبح سلطان مراكش. من بين أبرز الشخصيات ذات الأصل الجزائري التي ساهمت في تكوين المحيط السياسي لمحمد الخامس، يأتي محمد المقري، الذي ولد في وجدة من عائلة تلمسانية، والذي شغل منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) في عهد السلطان مولاهم عبد الحفيظ، واستمر في موقعه حتى عهد محمد الخامس. وكانت له مكانة استشارية بارزة، وتأثير على عدد من وزراء الدولة..  كما لعب قدور بن غبريط، الإداري والدبلوماسي الجزائري الذي ولد ببلعباس، دورًا مفصليا في السياسة المراكشية الداخلية والخارجية، خاصة عبر صلاته الثقافية والدينية في باريس والرباط. وقد ربطته علاقات مع محيط القصر، وكان يُستشار في شؤون الجاليات المغاربية. أما في المجال الفني، فحدث ولا حرج، انطلاقا من محمد بن القاسم القندوسي الذي ابتدع الخط القندوسي  ومنه انتشر على كل شمال افريقيا  وخاصة في فاس. وكذا السي ازواو معمري، الفنان الجزائري، الذي ولد في بني يني ودرس في الجزائر العاصمة، والذي استعان به المخزن ليدرس محمد بالخامس بن يوسف الشاب أيضا.. ومن الأسماء التي ساهمت في تربية المجتمع المراكشي فنيا، نجد بوجمعة العملي،  الفنان الذي غادر الجزائر ليؤسس مصنعا حرفيا في آسفي، ومنه شاعت الصنعة هناك. .لاحقًا، جاء عبد الكريم الخطيب، ذوي الأصول جزائرية، والذي أصبح طبيبًا ثم سياسيًا بارزًا بعد الاستقلال، وأسس لهم حزب العدالة والتنمية الذي يترأسه الجاهل بن كيران ، وكان حلقة وصل بين الجيل القديم من رجال القصر وجيل ما بعد الاستقلال.. كذلك نجد بصمة الجزائريين متواصلة في البناء هناك، على سبيل المثال بناء قصر ناماسكار في مراكش من قبل المهندس الجزائري عماد رحموني.


عماد الدين زتاف 

من هو الأمير عبد المالك بن الأمير عبد القادر

 


ولد الأمير عبد المالك بن محي الدين بن الأمير عبد القادر الجزائري سنة 1868 في دمشق، حيث نشأ وتلقى تعليمه وتدريبه العسكري ضمن الجيش العثماني، وذلك حتى نال رتبة عقيد في نهايات القرن التاسع عشر. بصفته ينتمي إلى عائلة الأمير عبد القادر، فقد ظل محل اهتمام القوى الاستعمارية والإمبراطوريات الكبرى المتنافسة، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا والدولة العثمانية، خاصة مع اقتراب اندلاع الحرب العالمية الأولى.
بعدما فشل في التوغّل في الداخل الجزائري، تسلل الأمير عبد المالك الى المغرب الأقصى فعُيّن  قائدًا لقوات الشرطة في طنجة من طرف الحماية الفرنسيّة فيها، وذلك بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906، حيثُ حاولت فرنسا استغلال نسبته للأمير لاستمالته ومنع ميل المهاجرين الجزائريين لألمانيا أو الدولة العثمانية. إلا أن الأمير عبد الملك كان به بُعد آخر، وبيّن عدم رضاه بذلك المنصب، حيث اعتبره دون طموحه. بل إنه قد أبدى علانية استياءه من العراقيل الفرنسية، كما نقل عنه الصحفي البريطاني الشهير جون هاريس من جريدة The Times.
في الفترة من 1906 إلى 1914، كانت طنجة ومنطقة الريف عمومًا ساحة للمؤامرات بين القوى العظمى، خاصة فرنسا وألمانيا إضافة للمضايقات الإسبانية. ومع بداية الحرب العالمية الأولى، تحرك الأمير عبد المالك بخطة طموحة أظهرت نواياه. فقد كان على اتصال سرّي بالألمان، وقد أبلغهم مسبقًا بقرار فرنسا طرد ممثلي القوات المغربية المركزية من طنجة الريفيّة. وبعد أشهر من التحضير، أرسل عائلته إلى إسبانيا وأعلن الثورة ضد فرنسا في مارس 1915.
بدأ الأمير ثورته من منطقة تازة، شمال شرق فاس، وكان هدفه إقامة دولة مستقلة وتنصيب نفسه سلطانًا على المغرب الأقصى، وخطّط بأن تكونَ فاسًا عاصمة لها. دعمته القوى المركزية، لا سيما ألمانيا والدولة العثمانية نِكايةً في فرنسا، وذلك بالسلاح والعتاد، كما أيدته إسبانيا سرًا لأن اضعاف الأطراف الأخرى يخدمها. أدار الأمير عبد المالك اتصالاته مع الثوار الريفيين المحليين، وتلقى دعمًا مهمًا من الأمير عبد الكريم الخطابي، الذي كان آنذاك موظفًا في الإدارة الإسبانية بمليليّة.
إن عبد الكريم الخطابي لعب دور الوسيط بين عبد المالك وألمانيا عبر إسبانيا، وساهم في تنظيم الدعم اللوجستي له.  وفي رسالة سنة 1916 إلى أخيه الأمير علي (الذي كان يتحرك بين برلين وجنيف واسطنبول لنقل رسائل الأمير ونشرها في الصحف الأوروبية، خاصة وكالة وولف الألمانية)، عبّر عبد المالك عن خطته للاستيلاء على الدار البيضاء وجعلها عاصمة جديدة.
ففي ديسمبر 1914، بدأت الصحف الأوروبية تنقل أخبار ثورته. ذكرت جريدة Tribuna الإيطالية أن الأمير عبد المالك استولى على تازة بجيش قوامه 15 ألف مقاتل وهاجم الدار البيضاء، وكبد الفرنسيين خسائر فادحة. أما الصحف العثمانية، ، فقد نشرت بيانات دعايات منسوبة إليه بكونه "أمير المغرب الأقصى" وأن المجاهدين يتقدمون والشعب يستقبلهم بحماس.
كانت فرنسا ترى فيه تهديدًا جديًا. ووفقًا لهاريس، فقد تلقى الأمير تمويلًا ضخمًا من الألمان، وكان يتمتع بسمعة قوية بين السكان، ما ساعده في تجنيد الكثير من المجاهدين. 
أشار الدبلوماسي البريطاني ج. هـ. سيلوس، الذي خدم في فاس، إلى أن عبد المالك بدأ مقاومته منذ فرض الحماية الفرنسية على المغرب، ووصفه بأنه كان مؤمنًا بأن دوره التاريخي قد آن.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الألمان والعثمانيين، لم ينهزم عبد المالك، بل سعى لتحالف وحيلة جديدة. ففي عام 1921، عرض خدماته العسكرية على إسبانيا فقبلت، وجعلت منه مسؤولًا عن تجنيد الجنود المغاربة. لكن فرنسا احتجت، وذكّرت إسبانيا بأن الأمير أعلن الجهاد ضدها، ما دفع الأخيرة إلى التراجع عنه.
في عام 1924، قاد عبد المالك حملة جديدة في دولة الريف  بعد أن نجح في تجنيد عدد كبير من المقاتلين. لكن تلك الحملة كانت الأخيرة، إذ سقط  ميّتًا سنة 1924، لتنتهي بذلك آخر محاولاته لإقامة دولته.
بعد عامين، نُفي الأمير عبد الكريم الخطابي إلى جزر القمر إثر سقوط ثورته وسقوط دولة الريف معًا. 

عماد الدين زناف 

الاثنين، 14 أبريل 2025

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته



ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته.
مقال عماد الدين زناف.

ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها. 
الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، فالأيادي الصانعة للشخصيات لم تتوقف يومًا عن الاختباء وراء شخصيّات مزيفة، أو شخصيّة لها شيء من المصداقية لتمرر بها أساطيرها.
والحقيقة أنني لم أعتمد على نفسي لمعرفة كم التدليس واللا منطق في رواياته، لأنني لست أملك من القدرة على التحقق بشكل محسوس في كل نقطة تطرّقَ إليها، وبالتالي فإنني قد اعتمدت على عديد الشخصيات المجتهدة، التي بدورها جمعت المراجع اللازمة في هذا الموضوع، بهذا سأحوم حول ما قيل من الباحثين المختصين في التنقيب وما وراء ذلك. ومن بينهم الباحث ¹ stephen janicek الذي نفى بالكامل رحلة ابن بطوطة إلى بلغاريا، مثلا. وجامعات متخصصة مثل جامعة ² WARWICK والتي ربطته بأكاذيب زيارته للقسنطنطينية والصين وكذلك مالي "على الرغم من أنها تعتبر أقرب نقطة له"، كذلك لم يسلم ماركو بولو من نفس التهم.  
وإذا عُدنا بالزمن قليلا، فسوف نجد أن ما كتبه ابن خلدون، معاصره، وما كتبه هو، يرجّح كفّة ابن خلدون في المصداقية التاريخية، لأن ابن خلدون يعدّ رحّالة أيضًا، وأكثر من ذلك، فقد كان قاضيا ووزيرا عندَ عديد الملوك، من الأندلس إلى مصر، وما سمعه ابن خلدون وما خَبَره، يُجاوز ما قد يعلمه ابن بطوطة الذي لم يتقلّد مناصب سامية، ولم يلتق بشخصيات وزوار ذوي شأن من مختلف مناطق العالم مثله. والقارىء لمقدمة ابن خلدون، يعلم تماما أنه قد قرأ ودرس ما قيل من المؤرخين الذين سبقوه، وردّ أكثر ما سردوه بضربة واحدة واعتبره كذبا وتزويرا ، وقد ذكر بعضهم بالاسم، كالمسعودي وابن الكلبي.. قائلا " وهذه الأخبار كلّها بعيدة عن الصّحّة عريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة."³ فأسلوب ابن خلدون منطقي وعلمي، عكس ابن بطوطة الذي يعتمد الخرافات، فهو شبيه بما كتبه المسعودي عن "مغامرات ملوك اليمن" في مورج الذهب. ولم يسلم ابن بطوطة من ملاحظات المؤرخين المعاصرين كابن الخطيب قائلا "لديه مشاركة يسيرة في الطلب"⁴ مقللا من شأن ما يعلمه. 
بعدَ هذه التوطئة السريعة، سنقتحم تفاصيل رحلاته، الأماكن التي ادعى زيارتها، التدرج الزمني الخاطىء، وصفه لمخلوقات أسطورية، مع أخبار كاذبةً تماما.. وكذا دلائل قويّة على أنه نسخ كثيرا من نعوت الأماكن من مؤرخين آخرين. 
1- التناقضات الزمنية :
ينقل لنا أنه كان ينتقل من مكان إلى آخر كثيرا.. المشكلة في ذلك التنقل هو في مدته الزمنية السريعة جدا، مثلا، انتقل من الحجاز إلى الشام إلى الأناضول إلى جنوب روسيا قبل أن يزور القسطنطينية وكذا آسيا الوسطي.. في سنة واحدة! من 1332 إلى 1333. بينما يؤكد العلماء أنه وبظروف ذلك الزمن وحتى بأحسن الوسائل، وجب أن يحدث ذلك في 3 سنوات كأقل مدة زمنية. وحتى لو حدث ذلك وحطّ في آسيا الوسطى سنة 1335، فلن يكون ذلك ممكنا، لمَ؟ لأنه ذكر بأنه التقَ بالسلطان تارماشيرين المغولي، لكنه في الحقيقة توفى سنة 1334م. سيُقال، ربما أخطأ في التاريخ، ورحل سنة 1330، لكنه قال أنه بقيَ في مكة من سنة 1327 إلى 1330. كذلك حول رحلته إلى بلغاريا، يقول أنه قام بالذهاب والعودة بين أوزبكستان وبلغاريا في شهر رمضان، لأنه يقول بأن المسافة بينهما تقاس بعشرة أيام مشيًا على الأقدام.. لكن الحقيقة أن بينهما 1500 كم، وهذا لا يستقيم، لأنك إذا مشيت 25 كم في اليوم فسوف يستغرق منك شهرا كاملا. كذلك في الأناضول، فقد انطلق من الغرب ليصل الى أقصى الشرق بمدينة أرضروم قبل أن يعود للمكان الذي انطلق منه.. وكل هذا في ثلاثة أشهر، والمسافة بينهما 2000 كم، الشيء الذي يتطلب 100 يوم و10 أيام إضافية. 
نفس الشيء عندَ كتابته حول الهند، الصين، والمالديف. 
في الصين مثلا، أكّدَ أنه زار عديد المدن في مدة بين 4 و 5 أشهر، الأمر الذي عدّه المؤرخون مستحيلا لأن المدن الصينية في تلك الفترة كانت بعيدة كثيرة عن بعضها البعض، مثل مدن قوانغتشو، تشوانتشو، بويانغ، نانتشانغ، هانغتشو إلى غاية خان باليق (بيكين).. علاوة أنه أكد عودته منها إلى مدينة تشوانتشو. 
2- وصفه لما شاهده.
المغالطات التي جاء بها هنا تعد فاضحة، لأنه يصف مدينة ما بشكل مخالف تماما عن مدينة قريبة منها، وبعضها كاذب تماما لا يمت بصلة إلى وصفها الحقيقي. 
عبر "رحلاته"، يصف ابن بطوطة بالتفصيل كل ما يراه، العمارات الناس التظيم الاجتماعي والاقتصادي، وكذا يومياته هناك.. لكن في بعض المناطق، ينقطع وصفه بطريقة غريبة، ولا يتكلم باسهاب مثل مناطق أخرى، مثلا، في افريقيا الشرقية، كان من المفترض أن يزور ثلاثة مدن، مقاديشو، مومباسا وكيلوا، لكن كان ذلك دون أي وصف دقيق. والغريب أنه لا يتكلم تماما عن رحلاته البحرية، بالرغم من أنها تشكل جزءًا كبيرا من هذا الترحال، بل إن بعض الرحلات البحرية تدوم أشهرا. أما وصفه للمدن، فهو يفتقد للدقة أو مغالط تماما، بالنسبة له، منازل مدينة كيلوا مصنوعة بالحطب وتعتليها نفايات.. لكن حسب الأركيولوجيين، فإن المنازل كانت تبني باستخدام المُرجان. كذلك لا يسرد أي معلومة على ازدهار هذه المدينة، التي كانت مسرح إعجاب، كما تبينها لوحة رسمت سنة 1572. أما بالنسبة لمومباسا، فقد وصفها أنها مدينة كبيرة وعظيمة، لكن الحقيقة أنها كانت مدينة ساحلية صغيرة. لاحقا، وفي أندونيسيا، ادعى أنه التقَ بملكها الملك الزهير، بيدَ أن الملك هذا توفى سنة 1326، أي 20 سنة كاملة قبل قدومه لأندونيسا. لكن المثال الأكثر غرابة هو الصين، لأنه بلد عظيم في تلك الفترة مليء بالثقافات والمثقين، وكان شهيرا حتى لمن لم يرحل إليه، وقد دخلها المسلمون وكان لهم مجتمعهم المسلم منذ قرون، مع ذلك، ابن بطوطة قصّ بطريقة شحيحة عن ما شاهده هناك، بل قد وصف الصينيين وصفا ساذجا مثل، "الصينيون يهتمون بالحِرَف التقليدية والرسم، طرقهم محصنة، ويومياتهم مخالفة للاسلام". ويبدو جليا أنه اختلق وصفا في ذلك المكان، فمن المستحيل الانتقال من زيتون (تشوانتشو) الى قوانغتشو من الوادي الأصفر، لكنه قال أنه فعل ذلك، كذلك بالنسبة لرحلته من زيتون إلى بيكين، فقد ذلك أنه اتخذ طريق الواد، والواد غير موجود بينهما (إضافة إلى أن المسافة كبيرة جدا).. ولانقاذ ما يمكن إنقاذه لابن بطوطة، رجّح المؤرخان (François-Xavier fauvelle و Bertrand Hirsh) ⁵ أنه قد يكون خطأ المؤخين⁶ في تحديد المدن بدقة، هذا كل ما يمكن قوله.. بيدَ أنني أراه تحليلا متحيّزًا لا يستند إلى الوثائق التي معهم... خاصة عندما نعلم أنه أكّد حضوره لجنازة الإمبراطور في بيكين سنة 1346، بيدَ أن توغون تَيمور توفى سن 1368.. أي 22 سنة بعد التاريخ الذي ذكره.. حظ موفق لمن يريد تبييض صحيفته !
لنتكلم عن رحلته إلى مالي ثم عن الذين أخذ منهم وأخيرًا وصفه للكائنات الغريبة، للنهي بعد هذ المقال الذي اخترت أن يكون موجزًا، لأن الحديث عن كل تناقضاته سيأخذ وقتا يماثل وقت كتابته لهذه الروايات. الرحلة المزعومة إلى مالي حدثت ما بين 1352 و 1353، وقد كانت مالي وقتها مملكة محترمة وثرية جدا، ذلك من إرث مانسا موسى الشهير الذي حكم سنوات 1312 الى 1337.. وفي آخر المطاف، يأتي ابن بطوطة ليروي لنا أشياءَ شحيحة جدا عنها، فقد أسهب في وصف مدينة ديلي مثلا، لكنه لم يقم بذلك ليصف أهم مدينة وهي العاصمة نياني.. وراح يسرد نفس الشيء الذي سرده عن الصين، بالرغم من أن مالي كانت مملكة مسلمة، اختزل وصف شعبها أن عاداتهم وثنية.. علاوة أنه بقيَ هناك 8 أشهر.. من أجل وصف شحيح وغير دقيق كهذا. 
3- المصادر التي أخذ منها.
كثير من صفحاتات "الرحلة" مأخذوة بالنسخ التام عن مؤخرين آخرين، أخذ عن ابن جزي الكلبي الغرناطي (1321-1351) الذي أخذ عن الرحالة ابن جبير (1145-1217) الذي رحل من الشرق الى الغرب ما بين 1183 الى 1185. مثلا، كل وصف دمشق منسوخ تماما من ابن جُبير، كذلك مدن أخرى في الشام، والكوفة بالعراق.. حتى وصفه لمكة معظمه منسوخ من ابن جبير. بالنسبة لمالي، فقد نسخ الوصف من الرحالة العُمَري في كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (1301-1349)، أما وصفه لمدن إفريقيا، فقد نسخ من البكري (1014-1094) الذي يعد من أشهر مؤرخي زمانه، وكذا القزويني (1203- 1283). أما عن الصين، فسوف نجد نَسْخا من كتاب أخبار الصين والهند الذي يعود للقرن التاسع.   
4- المخلوقات العجيبة.
يقول ابن بطوطة أنه وخلال رحلته عايش أعاجيب وخوارق، مثلا، يروي أن في عُمان، يصنع الناس بيوتهم بهياكل السمك، في الهند، يقول أنه شاهد يوغيًّا يطير في السماء، في الصين، يقول أنه التق بشخص عمره 200 سنة لا يأكل ولا يشرب شيئا.. ويقول أن دِيَكَة الصين ضخمة بحجم النعامة.. وبعودتهه منها، صادف في الماء عصفورا عجيبا كبيرا يعتقد البحارة أنه جبل. أما في بارانهغار في برمانيا 'ميانمار'، يصف سكانها أنهم إنس برؤوس الكلاب.. وعشرات الخوارق والعجائب الأخرى التي يرويها كحقائق. 
سأتوقف هنا، بالرغم من أن هناك الكثير من الأشياء التي يمكن التعرض لها ونقضها بل وتدميرها كليا، لكن لكي نترك المقال قابلا للقراءة، فضلت اختزاله إلى هذا الحد.. فليكن لكلّ منا عقلا نقديًا لا تروعه الأسماء ولا ما قيل عنها. 
________
المراجع:

¹ https://www.semanticscholar.org/paper/Ibn-Ba%E1%B9%AD%E1%B9%AD%C5%AB%3B%E1%B9%ADa%27s-Journey-to-Bulgh%C3%A0r%3A-Is-it-a-Janicsek/792fdab3c61837edcd7ce5155816f6b99f946124

 ²
https://warwick.ac.uk/fac/arts/history/students/modules/hi3k2/outlinesyllabus/week4/

 ³ المقدمة، الجزء 1 الصفحة 17

 ⁴ «الإحاطة» مخطوطة المكتبة الأحمدية بفاس، وعن هذا المصدر: ابن حجر في «الدر الكامنة»: الطبعة الأولى ج 3 ص 480.

  https://shs.cairn.info/revue-afrique-et-histoire-2003-1-page-75?lang=fr 

⁶ 
Voyage aux frontières du monde
Topologie, narration et jeux de miroir dans la Rihla de Ibn Battûta
• Par François-Xavier Fauvelle et Bertrand Hirsch Pages 75 à 122

#عمادالدين_زناف