تحقيق حول صفحة ”كنعانيون“ في ويكيبيديا
لنرَ مواقع الخلل والتضليل، ولأوضّح للشباب موضع الخطأ من الصواب | مقال عماد الدين زناف
🔸 نبدأ بموافقة جزئية على أن ما سمّتهم التوراة بالكنعانيين ليسوا من الشام أصلًا، بل استوطنوا المكان. هذا ما يؤكّده ابن الأثير والمسعودي وعدد من الباحثين في الآثار، دون تحديد واضح للمكان الذي أتوا منه، لنكون دقيقين. وسآتي على هذه النقطة لاحقًا.
🔸 مباشرةً، نقلت صفحة ويكيبيديا نظريةً مفادها أن هذا الشعب جاء من شبه الجزيرة، دون أي دليل علمي أو تاريخي. لكنها استدركت بذكر أن الآثار التي وُجدت في بلاد الشام والمنسوبة إلى الكنعانيين أقدم من تلك التي في الجزيرة. إذن الكنعانيون جاؤوا من مكان آخر.
🔸 ننتقل الآن إلى التضليل الذي فصّلتُ فيه كثيرًا في مقالات علمية سابقة يمكنكم العودة إليها:
https://www.facebook.com/share/p/16Hg4Fs1JH/
وهو نسبة الكنعانيين إلى سام. إلى يومنا هذا ما زال هذا الأمر من المسلَّمات، بالرغم من أنه يخالف كل الكتب التاريخية، بل ويخالف العهد القديم نفسه الذي يستندون إليه في كل شيء. التفصيل:
⚒️ أولًا: الاستدلال بالعهد القديم في الأزمنة الماضية يمكن تفهّمه، لأن العلوم لم تكن قد ظهرت أصلًا. الأركيولوجيا واللسانيات وغيرها لم يكن لها وجود، فكان المُعتمد عند الجميع هو ما كتبه فلان وعلان. وعندما يكون الناقل عن العهد القديم عَلاّمة مثل الطبري أو ابن كثير أو بعدهما ابن حزم، فهذا يزيد من شرعية النظرية التوراتية.
ثانيًا: إذا سلّمنا بالنظرية التوراتية التي تأسست في العهد البطلمي المصري (القرن الرابع ق.م، في الإسكندرية) حيث كُتبت التوراة لأول مرة بعد ألف سنة من موت سيدنا موسى – بحسب تأريخهم – فيجب التسليم بها كما جاءت. فلا يصح أن تأخذ من التوراة الاسم والمكان والحدث، ثم تقلب الأدوار بحجة أنها محرَّفة. فإذا كنت تعتقد أنها محرَّفة، فلا ينبغي الاعتماد على أدواتها أصلًا.
ثالثًا: المؤرخون المسلمون اعتمدوا النص التوراتي كما هو، للأمانة، لكن الموروث الثقافي عند الناس، والذي أثّر في المثقفين لاحقًا، هو الذي حرّف ما ورد في كتب المؤرخين. بمعنى: إذا كان ما نقلوه قائمًا على خيالات اليهود، فالناس زادوا فوق خيال اليهود خيالات أخرى تروق لهم.
رابعًا: هنا صُلب الموضوع: القول إن الكنعانيين ينتمون إلى الشعوب السامية تضليل، لا أقول كذبًا مطلقًا ولا حقيقة مطلقة.
من هم الشعوب الكنعانية؟ ومن هو كنعان الذي يُنسبون إليه أصلًا؟
كل مؤرخينا متفقون على أن كنعان هو ابن حام، كما قالت التوراة. أي أن من ينسب نفسه إلى كنعان دمًا وعرقًا فهو حامي. وفي التوراة التي يعتمدها كل المؤرخين، حام ملعون وهو أب لكل الأفارقة: كوش، مصرايم، فوط، كنعان وغيرهم. فمن أين جاء التشويش بأن الكنعانيين من سام؟ سأشرح:
عندما جاء رهط من الكنعانيين من إفريقيا إلى الشام – من إفريقيا لأننا قلنا إن حام وضع أبناءه هناك بحسب النظرية التوراتية – استوطنوا الشام، وصارت الأرض تُنسب إليهم لأنهم الأوائل فيها. بعد ذلك، سكنت أرض كنعان شعوب أخرى، خاصة بعد زحف العراقيين من الأُرْك، وظهور سيدنا إبراهيم وما يُروى عنه. هذه الشعوب سامية كما يقول العهد القديم. أي أن شعوبًا سامية سكنت أرض كنعان، فنُسبوا إلى الأرض، فسمّوا كنعانيين وهم في الأصل ساميون (كما يقول العهد القديم). وهنا حصل الخلط: النّاس ربطوا كنعان بسام، فاختلط كل شيء اليوم. وكل الفتن التي يثيرها صغار العقول تعود إلى عدم فهم هذه الجزئية الفاصلة.
خامسًا: الآن، بعد تقدّم العلوم وظهور وسائل متطورة لقراءة التاريخ، من احترامنا لعقولنا ألّا نأخذ العهد القديم بجدية كبيرة. فطوال الوقت يقول المسلمون إنه محرّف، ثم عند التحقيق يستدلّون به ومن استدلّ به! وهذا تناقض. ثانيًا، إذا أردتم الاستدلال بالعهد القديم وبالكتب التي اعتمدت عليه (وهي تقريبًا كلها) فيجب أن تتحلّوا بالأمانة العلمية في النقل أولًا، وأن تستعملوا العقل في الخبر ثانيًا، كما يقول ابن خلدون. لأن القول إن الكنعانيين من سام هو استحمار للعقول يمنعكم من فهم النص التوراتي وكتب المؤرخين معًا.
سادسًا: النقطة الأخيرة التي أذيّل بها المقال هي أن "السامية"، أي هذا المصطلح، صُكّ لأول مرة في القرن الثامن عشر عند شلوتزر وغيره من علماء اللسانيات. جمع فيه اللغات التي تنتمي إلى أسرة واحدة، أي تأثرت ببعضها، فوضعها في جدول واحد وسمّاها "لغات سامية". ثم أضيفت إليها الثقافات التي تنتمي إلى هذه الأسرة، مثل الذين عبدوا بعل وعشتار وأمون وغيرهم، فوضِعوا في خانات معيّنة وهكذا. أمّا التصنيف على أساس عرقي فلم يكن يومًا محل نقاش علمي، لأنه من المستحيل أن يُفصل فيه اعتمادًا على العهد القديم المليء بالخرافات والأشياء التي لا يمكن إثباتها حسًّا أو أركيولوجيًّا.
أتمنى أن يكون المقال دقيقًا ومفهومًا للجميع.
#عمادالدين_زناف
تعليقات
إرسال تعليق