الأحد، 1 سبتمبر 2024

لماذا اليونان؟



أكثر ما كان وما زال يستهويني في التاريخ و الحضارات، هو معرفة السبب الحقيقي وراء تفوق حضارة معينة على حضارات أو ثقافات أخرى، لم أكتفي يوما بقول أن ”هكذا جرت الأمور“، بل أحاول معرفة التفاصيل التي أحدثت الفارق، لأن البشر لهم نفس المشاعر ونفس التركيبة، الأمر الذي يختلف بينهم هو السلوك الذي فرضوه على أنفسهم.   الآن، أنا لست من هواة المحاكاة والاستنساخ الحضاري، لأن نواة الحضارات هو اختلافها عن بعضها البعض، فليس أسوأ على بصري وفكري من مشاهدة مدن أمريكية في بلدان عربية صحراوية، إذ أن هذا لا يعتبر تحضّرا بالمنظور الحضاري العلمي، إنما يعتبر فشلا في بناء حضارة حقيقية انطلاقًا من الثقافة المحليّة، ما اضطرهم لشراء نسخة مما عند الآخر.  ولكي لا أبتعد كثيرا عن موضوع هذا المقال، وكما تحدّثت سابقا عن السبب الحقيقي الذي جعل إمبراطورية روما تحكم قبضتها لأكثر من ألفي سنة على بلدان الحوض المتوسط رغم أنها كانت تهزم تماما في عديد المرات، نفسه سيكون الحال في المحاولة لفهم التفوّق اليوناني.   لن أتحدث عن التفاصيل والنشأة لأنني قمت بذلك في مقال سابق تحدثت فيه عن سببب اختفاء الفلسفة والفلاسفة في اليونان. 

حديثي اليوم عن سبب تأثيرهم أصلا على العالم، الأمر الذي يجب أن يُدرس مطوّلا، لأن اليونان في الحقيقة هي نتيجةٌ لتراكم حضاري أيضا، إذ أنهم أخذوا عن المصريين القدماء وعن سكان البحر أو الذين أسموهم بأنفسهم الفينيقيين وعن الفرس وعن الشماليين، الجرمن وغيرهم، وبالتالي فإن دور اليونان الحضاري، كان بالإمكان أن تتقلده مصر أو فارس أو شعوب البحر. طبعا، كل هؤلاء لهم ما لليونان من مواد خام، لكن اليونانيين فهموا أشياءً لم تصل إليها حضارة قبلهم على الإطلاق، وهو تسويق الحضارة.

 ”الماركيتينغ“ الذي حملته عنهم روما، ثم حمله كل الغرب عن روما وغزوا به بقاع العالم.  لكنه ليس تويسقا فارغا، لأن اليونان لم يكن أبًا للحضارة الغربية بالكذب، اليونانيون كانوا أول من سوّقوا للرياضيات والهندسة وعلوم الفلك والثيولوجيا والحروف والتأريخ (كتابة التاريخ) والأدب والخيال والمسرح والسياسة بنظامها الجديد والرياضة وخاصة الفلسفة التي انبثقت منها عشرات ومئات العلوم، وعندما أتحدث عن التسويق، فهو ليس بخصا في حقهم، لأن اليونانيين أضافوا الكثير جدا لكل هذه العلوم وأسسوا الكثير منها حرفيا، لكن قوتهم الحقيقية كانت في تعريفهم بأنفسهم. 

منذ سنوات، نشرت على قناتي في اليوتيوب درسا شرحت فيه علاقة الإنسان بالأرض، أي كيف تعامل البشر مع بيئتهم وكيف بنوا خضارتهم انطلاقًا من تلك الظروف والأدوات المتوفّرة، في مصر مثلا، الصحراء والحرارة فرضت نمطا تلقائيا على القبطيين بأن يبنوا أهرامات ومعابد بالصخور التي تندمج مع الأرض الملتهبة والشمس القاسية، وبنفس المنطق، ستجد أن الصينيين بنوا معابد وقصور وبيوت متناغمة مع رطوبة الجو وكثرة الغابات، حتى الألبسة والنظام الغذائي كانا متناغمين مع المناخ والأرض، وبالتالي، يؤثر هذا في ذهنية كل شعب، ليكون هذا هو العامل الرئيس في اختلاف الحضارات والثقافات.  اليونانيين وقبل بناء حضارتهم، سافروا كثيرا، فكانت لهم نظرة عن الحضارة، لكنهم كانوا أذكى من التقليد الأعمى، فرغم انبهارهم بمصر، إلا أنهم لم يبنوا هرمًا ولا معبدا على الطريقة المصرية في اليونان، بل بنوا على الطريقة اليونانية، وان كان فيها شيء من التأثر كالمثلثات المؤخوذة من شكل الهرم.
في الحقيقة، اليونانيين هم أكثر الشعوب عناية بالجمالية، عكس الخضارات السابقة، فاليونان كانت عبارة عن قاعة أعراس كبيرة، واختلاف الجمالية اليونانية تعود أساسا إلى مناخ اليونان الذي يسمح لعديد الأشياء في آن واحد، فمناطق فيها لها جو متوسطي حارّ ورطب، ومناطق أخرى باردة وثلجية، وأخرى بادرة غابية وغير رطبة، فأعطى لليونانيين قدرة على استيعاب ما عند الآخرين مع اعطائه صبغة محلية، لأنهم فهموا علاقة الإنسان بالمناخ والأرض.
السلوك اليوناني هو نقطة انطلاق  للعالم الغربي، فاليونان عُرفوا بتقديسهم للنمط التفكيري على الطريقة الصينية، بيد أن الصين وموقعها البعيد جغرافيا عن بؤرة الحضارة لم يسعفها لأخذ ريادة العالم على الأقل ثقافيا.

 كان لليونانيين أشياء مقدسة، منها:
الفضيلة (أريتي - ἀρετή) وتعني "التفوق" أيضا، وهي مفهوم مركزي في الفلسفة اليونانية، حيث تشير إلى الجودة التي تمكن الشخص أو الشيء من تحقيق كامل إمكاناته أو أداء وظيفته.
كذلك السعادة (اودايمونيا - εὐδαιμονία)، يمكن تعريفها بشكل أدق بأنها "التحقق الكامل" أو "الحياة الجيدة"، فبالنسبة لأرسطو، السعادة هي الهدف النهائي للحياة الإنسانية، وتتحقق من خلال الممارسة المستمرة للفضيلة.  التعقل (سوفروسيني - σωφροσύνη) وتترجم عادة بـ"الاعتدال" أو "ضبط النفس"، وهي فضيلة تتضمن التحكم في الرغبات والشهوات، مما يسمح للشخص بالعيش في انسجام مع نفسه ومع الآخرين. العدالة (ديكايُسيني - δικαιοσύνη)، خصوصًا عند أفلاطون، تعد العدالة إحدى الفضائل الأساسية، وهي ضرورية للحفاظ على النظام والانسجام في المجتمع وفي الفرد.  الصداقة (فيليا - φιλία) بخلاف الحب العاطفي (إيروس)، فإن الصداقة هي نوع من الحب يستند إلى الاحترام المتبادل والولاء والقيم المشتركة.  والعديد غيرها مثل كالوس كاغاتوس التي تعني الجميل الجيد، أي أن جميل الشكل عند اليونانيين هو جميل الروح وجيد الأفعال، لذلك على الفرد ان يعتني بشكله وببدنه ليحقق الحكمة والسمو الروحي.
بعد هذا، اعتقد أن القارئ قد لامس شيئا من سبب تفوق اليونان، وأن الحضارة ليست هدية تُعطى للشعوب، بل هي نتيجة ذكاء خارق في فهم التاريخ والمحيط، وفهم كيفية التسويق للذات لتتأثير على من بعدك.

#عمادالدين_زناف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق