التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تفسيرات جديدة، للثابت المحكم؟!



القرآن الكريم، بين القراءة الأصولية والاستقراء الحديث.

عَرفَ عصرنا الحديث، شيوع مصطلح "الاعجاز العلمي"، الذي يرمي الى ربط العلم بالآيات، واثبات صحة الحديث والقرآن، بالتطابق بين ظاهر النص، وآخر ما توصّل اليه العلوم، بمختلف التخصصات. عرفت هذه الحركة رواجاً عبر العالم، بين تأييد المسلمين بشكل عام، واستنكار الآخرين. وقد بيّن الكثير من العُلماء، أن الاعجاز العلمي قد يكون سلاح ذو حدّين، فقد يَدعم ظاهر النص أحياناً، وقد يتغيّر المنظر العلمي، او يتم اكتشاف شيءٍ مخالفٍ تماما، وهذا يضع المُستدَل ببعض الآيات في حرج، لذلك، آثر الكثير من الفقهاء، ألا يتم التسرّع بإسقاط الآيات الثابتات، على الأمور المتغيرات، فالعلم غير ثابت النظرة، لذلك، من العبث أن نُثبت أحقية القرآن، بشيء غير صُلب، والقرآن في ذاته، يؤمرنا بالإيمان بالغيب، ولا يطالبُ بإثبات ذلك مادياً. 
لكن هذه الحركة، حركة الاعجاز العلمي، هي حركة مُجتهدة، تُصيب وتخطئ، فلا تُعاب على اجتهادٍ، ما لم تجزُم به، ولم تَفرضه فرضاً على الناس، عكس حركات جديدة، تدّعي انّها قرآنية، أي تعتمد على القرآن فقط، ولا تلتفتُ الى السُّنة، رغم أن نفس الذي أتى بالسنة ونقلها لنا، هو الذي نقل القرآن تواتراً لفظياً، فاذا كان القرآن مقدّساً فالسنةُ كذلك مقدّسةً، واذا شكّكنا في مصادر السنة، ألزمنا أنفسنا بأن نشكك بمصادر تواتر القرآن، فهو لا ينزل من السماء على "القرآنيين"، بل يعتمدون على سند الرجال والقُرّاء، مثل قراءة حفص عن عاصم، وورش عن نافع، رضي الله عنهم جميعاً. 
الآن وبعد أن فككنا أوّل قنبلتين، بقيت لنا قُنبلة أخيرة، اعادةُ قراءة القرآن، تأويلاً وتفسيراً. هذه المهنة عُرفت لمن يُسمّونَ المفسّرين بدرجةِ المُجتهدين. ما المُجتهد في التعريف الديني للمصطلح؟ المُجتهد هو الذي أحاط بكل أدوات وعلوم الآلة الخاصة بالدين، المُجتهد مُحيطٌ بعلوم اللغة، نحو وصرف وبلاغة ومجاز، بعلوم الفقه بكل ما فيها، علوم الحديث قاطبةً، بعلم الرجال، الإحاطة بالجرح والتعديل، معرفة أصول المذاهب، على ما قامت عليه، وعلى ما اختلفوا فيه، كذلك أضيف شيئاً مهماً، الاطّلاع على كل التفسيرات السابقة، من تفسير ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم، الى الطبري الى ابن كثير الى البصري الى القرطبي، هذا إذا اكتفينا بأعمدة التفسير الأوائل.
كذلك، الإحاطة بالاختلافات العقائدية بين أهل الحديث، الأشاعرة، الماتردية، قراءة كتب العقائد المشهورة، مثل العقيدة الطحاوية والنسفية وغيرهم. فاذا أحاط الطالب بكل هذا، ويعلم الله كم هو صعب وشاق على أي طالب أن يحيط بكل هذا، هُنا يُمكنه أن ينطلق في فهمٍ جديد، لم يُسبق اليه، مع عدم تنصّله من الثوابت الدينية المعلومة من الدين بالضرورة.
أما ان تتقدم لشرح النصوص، وأنت لا تُحسن قراءة الآيات بأكثر من قراءة، ولا اعرابها، ولا تعرف سبب نزولها، ولا ما قاله الصحابة عنها، وتخطئ وتلحن في الكلام، وليس لكَ دراية بمن هو الطبري والطبراني، النسفي والتفتزاني، الباقلاني والجويني، السرخسي والزمخشري، الذهبي وابن عساكر، ولا تعرف من هم أعمدة التفسير، وأهل الحديث والرجال، ثم تقوم لتفسّر القرآن.. فهذا عَبث لا يصحّ.

والله ينصر المُتعلّم، طيّب النوايا.

#عمادالدين_زناف 

المقال _231

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...