الثلاثاء، 30 نوفمبر 2021

أين ابن الجوزي.. أين صيد الخاطر؟


شعرت بمرارات كثيرة وأنا أقرأ كِتاب صيد الخاطر لأبو الفرج ابن الجوزي، أوّلها هو قراءتي المتأخّرة لهذا الكتاب، ثانيها هو أن لا أحد، لا أديب ولا متديّن قد تحدّث عن هذا الكتاب الفريد من نوعه، لأن ابن الجوزي معروف جداً بعناوين مُختلفة مثل: زاد المسير، تلبيس ابليس، دفعُ شبه التشبيه، صفةُ الصّفوة، أخبار الحمقى والمغفلين، بستان الواعظين، وغيرهم، ولكن كتابهُ هذا (صيدُ الخاطر) وربما كتاب آخر مثل لفتة الكبد، ليس من بين ما يُذكر في ألسنة الناس ومن يُعرّفون به. وهذا يُذكّرني برواية دوستويفسكي التي تكلمتُ عنها سابقا (رسائل من تحت الأرض)، وقولي بظلم مُحبيه بطمس هذه الرواية وتقديم روايات أخرى، التي لا أشكك في جودتها، ولكن، في كثير من الأحيان، علينا ان نبحث في أطراف الدرج حينما يتعلّق الأمر بالنوابغ والفقهاء، فربّما ما يُشهره الناس لا يكون من أعمق الأعمال. أما المرارة الأخيرة التي شعرتُ بها، هو بظنّي أن أدب المقالات لم ينطلق الا مع مُحاولات ميشال دي مونتين في القرن الخامس عشر، وظنّي أنني لن أجد كتاباً فلسفيا وفقهيا عميقا بأسلوبٍ سهل، بل وبطريقة المأثورات، الا عند الرواقيين، والمتأخرين من القرن الثامن والتاسع عشر. 
كان يُمكنه أن يسمّيه، مأثورات ابن الجوزي، أو مقالات ابن الجوزي. قد يشير الي أحدهم بقول إن أبي الحسن الأشعري كتب كتاباً بعنوان مقالات الإسلاميين، نعم لكن لفظ المقالة هنا ليس بمعناه الحديث، والغريب في كتاب ابن الفرج، ان أسلوبه سهلٌ جداً دون أن يصل الى الركاكة، وعميقٌ جداً، دون أن يصل الى الاستحالة، وقد قادني الفضول الى البحث عن مصادر أخرى لهذا الكتاب، لأنني مهتم بالترجمات بشكل عام، وكانت لي فكرة مُسبقة ان أكثر كتب الكلاميين المترجمة عند الغرب هي للغزالي وابن حزم الاندلسي.
فاذا بي أجد ترجمةً فرنسية لكتابه بعنوان، les pensées précieuses، فأُصبت بالمرارة الرابعة أو الخامسة، فقد كُنت أدّعي مع نفسي أنني قُمت بالجولة اللازمة بالخصوص. 
قبل الحديث عن هذا الكتاب، دعوني أتكلّم سريعاً عن المؤلف العَلَم، نسبهُ يصل الى محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، هو من أشهر الفقهاء والمحدّثين، وكذلك من أشهر الادباء والمتكلّمين، وكما تعلمون، قد خصّصت في السابق مقالا مُفصّلاً عن علم الكلام عودوا اليه في مُدوّنتي، أو على موقع مُلهم. المتكلّمون معروفون بالذكاء والحفظ والاطلاع الواسع في شتّى العلوم، خاصة منها الفلسفة واللغات، فما يجعلهم متكلمون هو هذه القدرة الكبيرة في الربط بين العقل والدين، وتفسير الظواهر والأحداث والمعضلات بما يوافق الطرفين على حدّ سواء، وقد عرف عن ابن الجوزي الحفظ وهو صبيّ، وكان لا يفارق المنزل الا لصلاة الجُمعة. 
صيدُ الخاطر، العنوان يشي بمضمون الكتاب، وهو اختصار لاصطياد الخواطر قبل أن تًنسى، فقد كان يكتب تلك الخواطر والمقالات والمأثورات على طرف، بينما كان يُصنّف الكتب الفقهية والحديثية في طرف آخر، وهذا ما يجعل الكتاب مميّزاً، كان ابن الجوزي يُخاطب القارئ بعيداً عن مشقّة التفاصيل، بعيداً عن صعوبات العالم، كأنه يخاطبك كصديق، بأسلوب سردي ليس فيه الأمثلة المُثقلة.
من قرأ منكم كتاب المُختصر لابكتيتوس، لن يجد نفسه غريباً عن ذلك الأسلوب الذي قد يظهر فيه عدم التشابك في المعاني بين المأثورات، ولست من الذين يرون عيباً في هذا، بل على العكس، هذا النوع من الكتب يُفيد كل من لا يستطيع أن يبدأ في قراءة احداث القصص والروايات، فيعجز ويبتعد عنها. وربما أكون قد اخذتُ عن الفلاسفة هذا الأسلوب في النصوص، أي أن كُتُبي لا تُلزمك باحترام البدايات إذا كانت لا تعنيك القصص، بل ستستفيد من أي صفحة تفتحها. 
مجالس ابن الجوزي كانت تصل لمئة ألف رجل وامرأة يصغون الى وعظه في بغداد، لكَ أن تتخيّل قُدرة هذا الحكيم على الكلام والجدال. وما يُثير في شخصية ابن الجوزي هو اعجابه بنفسه، فلا يُخفي ذلك، وهذا لا يُزعج من لامس عبقرية المُعجب بنفسه، لطالما صادفت في الكتب، وخاصة كتب الفلاسفة اعجابا وتضخيماً للذات، هناك من يستعملون هذا للتسويق لأنفسهم، عن طريق اثارة الجدل، وهناك من يعتقدون ذلك في أنفسهم حقاً، وليكن!، لقد قرأت كتابا لنيتشه بعنوان: لماذا أصيغُ كتباً رائعة؟، وأنا أقرأ له أقول، أصبت، لكن الفرق بينهما أن ابن الجوزي مسلم، والمسلم لا يحتقر الآخر، ولا يغتر ليقزم الآخر، حتى لو أفصح بالإعجاب ، أما الأخير فقد كان مغروراً. 
 في كُتبه نلمس كثيراً من التصوّف، ذلك التصوّف الصّافي، فقد كان واعضاً وكان ذا خُلق وصبر كبيرين.
في هذا الكتاب، ستجدون فيه العبر بصفته واعظاً، وستجدون فيه استدلالات من الأحاديث تارة ومن القرآن تارة أخرى، ومن الحكماء أيضاً، وقد لامس تقريبا كل ما يحتاجه الانسان في كل حياته، فهو كتابٌ شاملٌ على يسره. 
قيل إنه ألّف أكثر من أربع مائة كتاب، وقيل تسع مائة، وقيل ألف ويزيد، كان رجلاً غير عاديا. والغريب أنني أصغي هذه الأيام الى بعض الخِفاف، يذمّون كثافة الكتابة والتأليف للكاتب، فأجيبهم بقول ابن الجوزي فيما معناه، لقد أردت معرفة كل العلوم، والتبحّر في كل علم، والكتابة فيها، ولولا قصر العمر والقدرة، لما توقّفت عن التصنيف.
فعلى المفكّر أن يكتب وبكثافة، وليس عليه أن يعتني بشيء غير التأليف والاصدار، فلا شيء يضاهي غزارة الأعمال، فحتى لو أوسعت زمنا للكتاب الواحد فلن يصبح الياذة زمانه، الا إذا كُنتَ موسوعة تمشي فوق الأرض. أبعد عنك فكرة التباعد، سوف يأتي اليوم الذي ستُقرأ فيه كل مصنّفاتك، حيّا كنت أو ميّتاً، فقط احرص على الجودة والعمل الجدّي، واحرص على ان تقدّم الإضافة اللازمة في كل عمل، كتاب ومقال وعمل مرئي، يكون حسنةً جارية لك، هذا هو الكلام الذي أختم بيه هذا المقال، فرحم الله ابن الجوزي، وأدعوكم الى تحميل كُتبه وخاصة الكتاب الذي أشرت اليه.

#عمادالدين_زناف 
#ابن_الجوزي 
المقال 242

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق