الهاتف الذكيّ وظاهرة القطيع، نيتشه يشرح عصرنا.
في كتابه العلم المَرِح يقول: "نحن الآن نشعر بالخجل من الرّاحة، التأمّل الطّويل يجعلنا نشعر بالندامة، نفكّر ونحنُ نُراقبُ الساعة، نُفكّر وعيننا مركّزة في بريد البورصة، نعيشُ وكأننا شخصٌ يخشي من تضييع شيئٍ ما، او أن يُفوّتَ عليه شيئاً ما."
نُمضي وقتنا في مشاهدة السخافات عبر مواقع التواصل، فيديوهات وصور، فكاهات ومقالب وحيوانات وأطفال، أخبار غير مُهمة نخشى أن نفوّتها، عن فُلان وعلّان، عن أشياء سياسية لسنا بحاجة لمعرفتها. ومع تصاعد هوسنا، يعمل الذكاء الاصطناعي على عرض المزيد من الاقتراحات لأشياءٍ مُماثلة، وهكذا، لن نستيقظ أبداً من هذا التنويم المغناطيسي.
حتى أصحاب الفكاهات والمقالب ومربو الحيوانات، لا يعلمون لمَ تُثير فيديوهاتهم كل هذا الاعجاب، حتى الذكاء الصناعي لا يعلم ما الأمر الذي يجعل تلك الامور تشدّ أكبر عدد من الناس، الذين أصبحوا بهذا عبارة عن قطيع.
ساعات وساعات أمام هذه المحتويات، مما سبب في تراجع للثقافة العامة للمجتمعات. الاستعمال اللامشروط للهواتف الذكية ساهم في تضخيم قوّة القطيع، القطيع الذي لطالما شكّل ويشكّل خطراً على الفرد، خاصة الفرد الذكي والفعّال.
لكي تنظم للقطيع اليوم، ليس عليك تحريك ساكن، فأنت ضمن القطيع بنقرتين، متخفياً وراء اسم مستعار. كل قطعان العالم يشكلون قطيعاً افتراضياًَ واحداً. ذلك القطيع الذي يبحث بلا هوادة عن كبش فداء، ضحيتهم التي يروون بها عطشهم وشهوتهم، كما يسميها نيتشه، شهوة العطش، شهوة الانتقام عما يعتقدونه سوء حظ، ما يعتقدونه أن الحياة تريد ايذائهم.
سلاح القطيع الأوحد هي الأخلاق، تلك الاخلاق المصطنعة والمصنوعة فقط لمعاكسة كل من يختلف عنهم، يختفون وراء الأخلاق، لأنهم بلا حجة ولا قوة.
يقول نيتشه أن هؤلاء يشبهون الفريسيين pharisiens المذكورين في الانجيل، الذين يقول عنهم عيسى عليه السلام أنهم يتظاهرون بالتقوى. لم يعُد هناك نقاش، بل حظر مُباشر لكل فكرة مخالفة، لكل فرد متفرّد. عندما قرّر العالم أن يعيش دون اله يتّبع أوامره، وعندما قرّر الانسان أن يلغي فكرة الرقيب (الله)، وضع نفسه في حالة عبادة وخضوع لشيء آخر، شيء مثل المادة، أو مثل عصابة قويّة تسوقه.
العصابة تحتاج الى رئيس لها، تبجّله وتوقّره، عندما اختفى الدين بين الهواتف، عوّضه حكم الشركات ولوغارتمياتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق