للأدباء أساليب عديدة في إيصال الرسائل، هناك من هم فلاسفة أدباء، مثل نيتشه وكانط، وهناك من هم أدباءُ فلاسفة، مثل دوستويفسكي وكامو، وهناك من نستطيع تسميتهم بفلاسفة الشارع، المجانين الذي لا يتقيّدون بشيء، يلوح في ذهني بوكوفسكي وسيلين. في هذا المقال، سأعمدُ الى تحليل رواية سيلين رحلة في أقاصي الليل، لكن قبل الدخول في الرواية، العديد منكم قد لا يعرف من هو فرديناند سيلين، هو روائي وطبيب، راديكالي الفكر، كان من أكثر الشخصيات الأدبية موالاة للنـ،ـازية في فرنسا، بذلك هُجّر منها بعد سقوط حُكم المارشال بيتان. يتميّز هذا الروائي بالسخرية السوداء، بالسباب والشتم في نصوصه، بالذهاب بعيداً في الأوصاف، بالدعوة والتحريض المباشرين، بالمقت والكراهية لتقريباً كل شيء، للعصر والمحيط والناس ولتجاربه، خاصة في الجيش الفرنسي، للسياسة والاعلام، كان حاملا للواء الفلسفة العدمية، مستاء وكئيب، وفي نفس الوقت، له قلم موهوب جداً في وصف كل تلك الآلام والبغضاء. لم نعتد على هذا النوع، بل ليس هناك أدباء في عصرنا بهذه الصفات، ببساطة لأنه الامر صار ممنوعاً، لك ان تتخيل أن ما كان يكتبه في زمنه، زمن الحروب وقبول كل شيء، زمن لا قوانين فيه تمنع العنصرية وأمور مشابهة، وكان مع ذلك يسبب صدمة للقراء، أما الآن، فمجر التفكير في إعادة بعث سيلين وأسلوبه يشكل فوضى حقيقية في عالم الأدب والسياسة أيضاً.
نحن في سنة 1914، تبدأ الرواية بحواره مع رجل حول الحرب الدامية في أوروبا، يتحدّثان فيها حول الوطنية، بين أهميتها وبين عدم جدواها، وانطلق سيلين في السخرية من ذلك بعد ان شاهد قافلة حربية ذاهبة للميدان، وراح يذكر تجربته في باخرة حربية، وكيف يُعامل الجنود من النبلاء. تعرّف في تجربته بسريّات الخنادق، الذين حدّثوه عن الوطنيّة وكره الألمان. عمد سيلين على تفكيك تلك البطولات المزعومة، وراح يسخر من أبطالها. يحاول أن يُخرج أحشاء تلك البطولات النتنة، ويظهرها للناس، استعمل أسلوب العودة الى مولد الكمال، لكي "يفضح" ما يعتقد الناس أمراً رائعاً وخارقاً، ما يحوم حول الشعور بالبطولة، ما هو الا استعطاف وكذب. يتكلّم عن الطبيب، الذي كان يدفع بالجنود للعودة الى ميدان الحرب، وهو مرتاح خلف مكتبه، لا يفكّر الا في تقدّمه في الحياة.
يتحدّث عن جندي مُصاب، وهو في سرير المُستشفى، يحاول اغراء الممرضات بإظهار وطنيّته واستبساله الظاهري، لكي يحظى بإعجابهن. اعتبر سيلين ان كل هذا مسرحية قذرة ليس فيها شيءٌ راقٍ. يقول إن البطولة لا تكون سوى لمن مات، وأن الحب مصطلحٌ كبير، لا يتطابق مع حفنة من الكذبة والمُدّعين. يتكلم الراوي عن الاستعمار في افريقيا، وعن التجربة الأمريكية، وفي كل مرّة، لا يخجل بقول انه جبان يفرّ من كل المعارك، لما يراه من جرائم وقبح، يقول إنه جبانٌ وحاقد. في أطراف الرواية، نكتشف ان شخصية مولي تبيّن جانباً من انسانيته، رغم أنها بائعة هوى، الا انها أحيت فيه انسانيته. بعد ان تركها، عادَ الى قريته في فرنسا.
قرية مليئة بالفقر والجهل والمعاناة، من مخلّفات الحرب والتعصبات. عاد اليها ليعمل كطبيب. فقد قادته الرحلة للعودة الى نقطة البداية، فيبدو انه لم يتفوّق في الهروب من الحضيض الخُلقي جرّاء رحلته، فلم تكن رحلته جواءً له، بل زادته كراهية وبغضاً.
ثم تحولت رحلته من المحسوس، الى رحلة في ذاته وأعماقه. هذا الجزء عليكم قراءته بأنفسكم.
أسلوب سيلين قد ولّى، وأصبح محظوراً، لكن بعد اكمال الرواية، ستفهم ان فلسفة هذا الروائي تتلخّص في أنك اذا قمتَ بفعل ما، او شعرت بشيء ما، فافعل واشعر بكل جوارحك، وافعل الفعل فعلا كاملاً، اذا أحببت فأحبّ بقوّة دون شروط، كذلك اذا مقت فامقت دون عطف. فلسفة سيلين هي فلسفة وقحة، لكنها فلسفة واضحة المعالم، لا نفاق فيها ولا حيلة، سيلين ينبذ نفسه بنفسه، فلم يعد لمن يريد أن ينبذه قول ولا نقد، فقد قام بكل شيء.
#عمادالدين_زناف
المقال 239
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق