الاثنين، 22 نوفمبر 2021

رسائل من تحت الأرض، شكرا دوستويفسكي




قبل الحديث عن الرواية، أريد أن أشكر الكاتب الفرنسي فرونسوا بيغودو، الذي شاهدت له حواراً مدّته ساعتين، "نعم هذا ما يثير انتباهي، ان أستمع لكتاب وفلاسفة يتكلمون عن أنفسهم لساعات"، وعند نهاية الحوار، أشار على عجالة بانه ينصح ببعض الكتب، وذكر اسم هذه الرواية، فالتقطت العنوان ورحت أبحث عنها، فصدمت وانا أقرأ محتواها، كيف يمكن لهذه الرواية ألا تكون واحدة من أشهر أعمال الفيلسوف الروسي؟ محتوى الرواية يُشبه ضخامة الفيل، مكدّسة بالأفكار، حتى انني قلت في نفسي سأدوّن بعض المقاطع كي أعلّق عليها، فوجدتني أكتب أربع أوراق فقط لمقتطفات. قبل البداية في التحليل، عليكم أن تعلموا أن ليس هنالك شيء يُضاهي نصيحة في صنعةٍ ما، من صاحب الحرفة.
رسـائل من تحت الأرض، كتاب فيه مزيج من المونولوج، الحوار الوهمي مع القرّاء، التحليل الاجتماعي والتاريخي والنفسي للإنسان، في قالب روائي، هي رواية، لكنها كل شيء الا رواية بالمعنى العام الذي نعرفه. تَشعُر أن الكاتب كان مضطراً على وضع قصّة ما، لكن الهدف الحقيقي ليس تلك القصة، وهذا ما ذكّرني بعض الشيء، بروايتي مسرحية يعقوب، لا اخفيكم أنني شعرت بالفخر لتطابق الأسلوبين، رغم أنني لم أقرأ رواية فيودور الا الآن، أقصد منذ ساعات. لن أُقدم على حرق الرواية، رغم أن ليس فيها ما يُحرق صراحةً، لأن وكما أشرت، فيها القليل من الرواية بالمفهوم العام، وكثير من التحليلات التي يمكن أن تسحبها وتضعها في كتابٍ فكري أو فلسفي، وهذا ما جعلني أتكلّم عنها، فكل من يقرأ هذه المقالة، يعلم حبّي غير المشروط للفلسفة، فلا يجب اعتبار هذه القراءة كنوع من التحليل الموضوعي، لا تعنيني الموضوعية، ولا أؤمن بالحياد، خاصة في القراءات الأدبية، فاعتبروه انحيازاً، لكنه انحياز يستند على أسس مُحترمة، وليس انحيازاً لمجرّد الانحياز. "الرواية" واقعية بحيث أن الراوي هو نفسه الكاتب، يسقط الزمن والمكان وسنه اسقاطاً حقيقياً، يبدأ بذم واحتقار ذاته، وتشبيه نفسه بكل الأمور المنبوذة، ولم يتوانى عن إهانة نفسه، مشبهاً نفسه بالفأر المسجون تحت الأرض منذ أربعين سنة. وقد يكون هذا المونولوج، إشارة منه على خروجه لسطح الأرض ليسأل الناس (القراء)، أسئلة في المنطق والطبيعة والكون والتاريخ والنفس الإنسانية، أطماع البشر وما يرغبون فيه، مترنحاً بين اسقاط ذلك على نفسه تارة، وعلى صديق، الذي هو صديق الجميع. 
انا حاقد على الزملاء في العمل، شخص حسود وسيّء جداً، هكذا يصف نفسه، أنا شخصٌ يجد لذّة في الألم، ويجد لذّة في اخافة القديسين، هكذا يرى واقعه. صعوبة تجاوز هذه التضاربات النفسية التي تختلجه، جعلت منه شخصاً سيئاً حتى في سوؤه، فقد انهزم في الوصول الى أن يكون سيئاُ. هنا ينطلق دوستويفسكي في تفكيك الانسان بطريقة مُبهرة. في قبوه، أو سجنه، في مكان ما تحت الأرض، وحيداً، لم يجد قدوة له في السوء، لا يُحبه أحد، لأنه لا يُحب نفسه، لكنه يجد في ذلك لذّة غير طبيعية، لأن ذلك يخرج عن المألوف والملل. حقده وغيرته، درّته الى البحث عما يزعجه من الآخر، يُشر الى أنه تعرّض الى الدفع من قبل شرطيّ في حانة، يقول بان ذلك الشرطي لم يعي حجم الإهانة، فجعَل يفكّر لمدة طويلة في كيفية الانتقام منه، الى درجة اقتناء ملابس جديدة، ليردّ تلك الإهانة، وعندما جاء ذلك اليوم، واستطاع ان يدفع ذلك الشرطي، فان الأخير لم ينتبه تماما لا لهُ، ولا لفعلته، كان فوزاً مُحبطاً جداً، ومنه شرّح الانتقام في نصوصه، وجعله شيئاً سخيفاً جدا. 
هذا الرّجل يتغذى من الاحتقار والاذلال الذي يتعرّض له، لكي يبرّر فشله، لأنه يعاني من غياب المبررات الحقيقة لعدم تفوّقه. 
سأعمدُ الآن الى ذكر بعض المأثورات التي أثارت انتباهي، ثم أعلّق عليها حسب السياق.
يقول "ان الذكي لا يمكنه ان يكون خطراً، الأحمقُ فقط من بمكنهُ أن يكون كل شيء"، الذكي يتجاوز الآخر، فهو يُسخّر موهبته لنفسه، أما الأحمق، فيمكنه أن يشكل خطراً، لأنه لا يكتفي بذاته، بل يرى أن نجاحه متعلّقٌ بخسارة الآخرين. 
"تُرى ما الذي يستطيع أن يتحدّث به الانسان ويشعر بالمتعة؟ الجواب: أن يتحدث مع نفسه. الحديث مع الذات هو أرقى الأمراض النفسية. يقول "أقسِمُ يا سادة ان شدّة الادراك هو مرضٌ حقيقي"، لحياة جيّدة، قد يحتاج الانسان الى ادراكٍ متوسّط. "ان في اليأس لأقصى درجات الاستمتاع، خاصة عندما يدرك الانسان أنه في موقف ميؤوس منه." وهذا يُشير الى أن اليأس "في روايته" وقد يكون كذلك في الحياة، نوع من أنواع التبرير للفشل! تخيّل أنك تفشل، ولا تجد مبررا لفشلك! أليس الأمر محبطا؟
"قد يتمتع الفأر بادراكٍ شديد بنفسه، الا أنه يضل فأراً مع ذلك." الادراك، لا يُغيّر من الذات، فأن تدرك نفسه والعالم، لن يغيّر منهما شيئاُ، بل ان الادراك زيادة مشقّة. يقول "الطبيعة لا تتوقف لتسألكَ رأيك." عليك أن تقبل بها، فهكذا سترى الجدار جداراً. 
"نكاتي وسخريتي سخيفة، لأنني لا أحترم نفسي، وهل يستطيع الانسان الذي يتمتع بالإدراك ان يحترم نفسه؟" في إشارة بليغة أن معرفة الانسان لذاته تزيده من تقزيمها وتحجيمها، فالجاهل فقط من يحظى باحترام نفسه، الاحترام هنا بمعنى تعظيم الذات طبعا.
يقول "ما العمل إذا كان همُّ الذكي هو أن يثرثر، أي أن يصبّ الماء في الغربال"، الاذكياء كثيرو الكلام أيضاً، لفرط المعلومات والتحليلات التي تهزم صمتهم. يقول "تمنيت أن أكون كسولاً، لأجد سببا أقنع به نفسي على عد قيامي بفعل ما." أما هذه فقد أعجبتني كثيرا، الانسان يبحث عن الشماعات دائماً، فان لم يجد شمّاعة لفشله وكسله، فلربما يجد نفسه مضطراً للعمل؟ 
يقول "إذا لم تجعل الحضارة الانسان أشد تعطشا للدم، فان جعلها تعطشه أشد شرّاً"، يشرح ان الحضارة طوّرت من لذّت العنف عند الانسان، وجعلتها أكثر فنّا واتقانا. "العقل ممتاز، لكنه ليس أكثر من عقل، فهو لا يشبع الا الناحية العقلية من طبيعة الانسان، في حين أن الإرادة أشمل، العقل لا يعرفُ سوى ما أفلح في تعلّمه." لا أجد ما أعلّق عليه، الفقرة عبقرية. يقول "يمكننا وصف التاريخ البشري بكل شيء، انا انه متعقّل". التاريخ جملة منظمة من اللاعقلانية الكرونولوجية. 
"الخمول، هو أبو الشرور كلها"، نعم، أضيف ان نبيّنا عليه صلوات الله استعاذ بالله من العجز والكسل. يقول أيضا "الانسانُ يعمل على تحقيق الأهداف الا انه لا يميل الى تحقيق هذه الأهداف." وهذه عبقرية أخرى، سبق بها الجميع، المغامرة اهم من الوصل، دائما، فالخطر الذي يخشاه الانسان، ان تنتهي أهدافه، بعد تتويجه، التتويج الذي لا يدوم الا لبضعة دقائق.
هكذا كانت قراءتي لهذه الرائعة، ما عساي الى ان أحثّكم على قراءتها، وقراءة أعمالٍ مشابهة. 

#عمادالدين_زناف
المقال 238

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق