التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الشك واليقين، فيتغنشتاين


ما زلتُ أكتُب عن الأمور التي لا تُثيرُ الفُضول، وأنا سعيدٌ بهذا.  حديثي اليوم عن واحد من أكبر فلاسفة القرن العشرين، لودفيك فيتغنشتاين، لا يعرفهُ الكثيرون، وهذا أحسن بكثير من معرفةٍ مُزيّفة! ، في الحقيقة، إذا كانت الفلسفة صعبة، فإن لودفيك جزءٌ لا يتجزّأ من هذه الصعوبة بحقّ. كان النمساوي متخصّصاً في فلسفة اللغة! ولا أعلمُ له ترجمة بالعربية إلا كتاب «تحقيقات فلسفية»، ولستُ مستعداً لمطالعته، لخوفي الشديد من جودة الترجمة، فقد قرأت له بالفرنسية واكتفيت بها. مواضيعه تحوم حول اللغة كما ذكرت، ولكن أيضاً في الشك واليقين!، كنتُ أظنّ أن نظرته للشك واليقين في كتابه de la certitude لن تختلف كثيراً عن نظرة الغزالي، وديكارت، وهيوم. إلا أنني وجدتُ له نظرةً جديدة للمَفهوم. يقولُ «كلُ إنسانٍ لهُ عقلٌ ”أولا”، ثم يُضاف إليه مُعتقد ”ثانيا“»، «أعتقد أن هُناك نهرا في أستراليا، أن هؤلاء هُم أبواي، هذا ما اعتقد، لكن لم أعبر ولم أفكر يوماً في هذا اليقين، وحتى التفكير في حقيقة هذا، لم يتم التفكير فيها.»، «الطفل يتعلّم بتصديقه للرّاشد»، «الشّك يأتي بعد الإعتقاد»، «تعلمتُ عدة أمور، قبلت بهم عن ثقة، عن تحكّم ورقابة إنسانية، ومع مرور التجارب الشخصية، كثيرٌ منها تأكدت، وأخرى بطلت.»، « ما يصدر عن الكتب المدرسية، مثل كتب الجغرافيا، لا أصدق به، لماذا؟، أقول، كل هذه الوقائع تم تأكيدها مئات المرات، كيف أعرف؟، من أي شواهد آخذ؟، لدي صورة للعالم.. هل هي حقيقية أم مزيفة؟، هي قبل كل شيء تفاعلات، كل ما أبحث عنه هو أن؛ ليس كل ما قيل عرضة للتوثيق والتأكيد.» «هل هناك أحدٌ ليتحقق من بقاء هذه الطاولة التي هنا، في مكانها، عندما يغفل عنها الجميع؟» «نقرأ عن بطولات نابليون، لكن هل نتحقق من ذلك؟ لا، قد يكون كل ما ذُكر هو اختلاق وكذب، أو شيء من هذا القبيل، حتى لو تحققنا، فنحن نتحقق من الذي لا نتحقق منه عادة».
«هل الأجهزة التي أراها، موجودةٌ حقاً؟» «التحقق، اليس هذا مصطلح؟» «طفل يخبر الآخر؛ أعلم أن الأرض قديمة، وهذا يعني؛ تعلمتُ هذه المقولة». «الصعوبة، أن ندرك غياب الأسس لمعتقداتنا».
هذه لمسات فقط من كتابه،قد يعتقد البعض أنها فلسفة فارغة، من يعرف الفلسفة حق المعرفة، يدرك أن الظاهر من الأمثلة غير مُراد بالمرّة، إنما المعاني هي الأساس، فهو لا يريد منك أن تشكك في وجود الطاولة، ولا أن تثبت وجودها، لا معنى للطاولة في ذاتها، المعنى كله في نظرتك للطاولة، كرمزية للمعلومات التي تستقبلها، وللتجارب التي تخوضها.
من يحسن الفرنسية، أنصحه بكتاب de la certitude، سيسبح في دوامة لطيفة. 
بعد أن تكمله، عُد إلى «المنقذ من الضلال» للغزالي، وسوف تجد بناء مفاهيمي عبقري في قضية الشك، وكيف يزول الشك بنور الله، وليس بالماديات! ثم انتقل الى ديكارت، ودافيد هيوم، لترى كيف تطور هذا المفهوم، وتلحظ أيضاً كثيرا من التناقض! 

#عمادالدين_زناف 
المقال 229
..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...