ابنُ رشد.. محنته وشروحاته و ▪فلسفته▪ !
ولد أبو الوليد محمد بنُ رشد في مدينةِ قرطبة سنة 1126م. كان ينتمي الى أُسره أندلسية معروفه بالعلم والفقه والقضاء. فجده القاضي أبو الوليد محمد كان من كبار الفقهاء المالكيين الذين كان لهم أثر في السياسة المغربية. درس الأدب والفقه والأصول وعلم الكلام واستظهر على أبيه موطأ الامام مالك، وأخذ الفقه عن ابن مروان غيرهما، ودرس الرياضيات والطب غير ذلك من علوم الحكمة على ابي جعفر بن هارون الترجاني. ولما بلغ ابن رشد السابعة والعشرين، سافر الى مراكش واتصل بعبد المؤمن اول الملوك الموحدين، وكان هذا الملك قد أخذ في انشاء مدارس العلم والادب، فاستعان بابن رشد على انشائها وتنظيمها.
المقال رقم 199، الكاتب عماد الدين زناف.
ظل ابن رشد في مراكش حتى مات عبد المؤمن وخلفه على عرش المغرب ولده ابو يعقوب يوسف، الذي كان اكثر ملوك المغرب حبا للعلم والعلماء، وكان الفيلسوف ابن طفيل أحد المقربين اليه فجمع له العلماء من كل حدب وصوب، وحمله على تكريمهم، وهو الذي لفت نظره الى ابن رشد ودبر امر قدومه عليه. وقد رأى عبد الواحد المراكشي نقلا عن احد تلاميذ ابن رشد خبر قدوم الفيلسوف على الخليفة فقال حكاية عنه: وسمعت الحكيم ابو الوليد يقول غير مره لما دخلت على امير المؤمنين ابي يعقوب وجدته هو وابن طفيل ليس معه احد فاخذ ابو بكر ابن علي يذكر بيتي وسلفي ويضم بفضله الى ذلك اشياء لا يبلغها قدري ،فكان اول ما فاتحني به أميرُ المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم ابي ونسبي، قال لي ما رأيهم في السماء «يعني الفلاسفة» قديمة هي أم حادثه، فاذكرني الحياء والخوف واخذت اتعللُ وانكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم اكن ادري ما قرر معه ابن طفيل.
ففهم امير المؤمنين مني الروعة الحياء، فلتفت الى ابن طفيل وجعل يتكلم عن التي سألني عنها ، ويذكر ما قاله ارسطوطاليس وافلاطون وجميع الفلاسفة ويريد على ذلك احتجاج اهل الاسلام عليهم فرأيت منه غزاله حفظ لم اظنها في احد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له ولم يزل يبسطني حتى تكلمت فعرف ما عندي من ذلك.
ومما رواه المراكشي ايضا ان ابا بكر بن طفيل استدعى ابن رشد مره وقال له سمعته امير المؤمنين يشتكي من قلق عبارة ارسطوطاليس او عبارة مترجمين عنه، ويمكر غموض اغراضه ويقول لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقربها اغراضها بعد ان يفهمها فما جيدا يتقرب مأخذها على الناس كان فيك فضل قوه لذلك فافعل واني لا اريد انت في به لما اعلمه من جوده ذهنك وصفاء قريحتك والقوه لنسوعك الى الصناعة.
ويظهر لنا بان ابن طفيل كان يقدر ابن رشد حق قدره وان كان لم يظهر امامه الا بمظهر الاستاذ الاكبر الذي صرف عنايته الى ما هو اهم عنده من تلخيص كتب ارسطو. لقي ابن رشد بعدما توفي ابو يعقوب وخلفه ابنه عند والده من حضره وتكريم وكان المنصور كابيه محبا للعلم واهله فلما استدعى ابن رشد قربه واحترمه احترامها واحتراما كبيرا. وقد اختلف المؤرخون في اسباب محنه وقال قريب ان سبب محنته اخلاصه الحب لابي يحيى اخي المنصور والي قرطبة الذي كان المنصور يختم منافسته على العرش، فريق انه كان متى حضر مجلس المنصور ويتكلم معه وبحث عنده في شيء من العلوم يخاطبه بقوله اتسمع يا أخي.
فرأى المنصور وهو في حرب مع الفونس التاسع ملك اشتال ان يعمل على ارضاء العامة من الشعب، فوقعت النكبة في من كان يعظمهم إرضاءً للفقراء، وقد روى الانصاري ان احد العلماء المتصلين بابن رشد قال وما كنت اخذ عليه فلتة الا واحدةً وهي أعظم الفلتات، وذلك حين شاع في المشرق الأندلس أن ألسنةُ ريح عاتيه تهب في يوم كذا، وتهلك الناس فتفادى ذلك حتى اشتدت، ف نزع الناس منها واتخذوا الغيران والانفاق تحت الارض توقيا لهذا الريح، ولما انتشر الحديث وطبقت البلاد، استدعى والي قرطبة انذاك طلبتها، وفاوضهم في ذلك، وفيهم ابن رشد وهو القاضي بقرطبة يومئذ وابن بندود، فلما انصرفوا من عنده تكلم ابن بندود في شأن هذا الريح من جهة الطبيعة وتأثيرات الكواكب فقال الشيخ ابو محمد عبد الكبير : ان صح امر هذه الريح، فهي ثانية الريح التي اهلك الله تعالى بها قوم عاد، ولم يتملك بن رشد ان قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقا فكيف سببها لهم.
فسقط في ايدي الحاضرين واستكبروا هذه الزلة التي لا تصدر الا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القران التي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وفيما جاء في كتاب المعجم في تلخيص اخبار المغرب للمراكشي أنه نقل كلاما عن آلهات، بمحضر من كبار قرطبة، فقال له اخطبك هذا فانكر ، فقال لعن الله كاتبه وامر الحاضرين بمنعه، ثم امر بإخراجه مهانا وبإبعاده وابعاد من تكلم في شيء من هذا في هذه العلوم، مع الوعيد الشديد، وكتب الى البلاد بترك سوى كتب الطب والحساب والمواقيت.
والدليل على ان المنصور لم يعاقب ابن رشد الا ارضاء للعامة، انه حكم عليه بالنفي لا بالقتل، وانه عندما هدأت الفتنه رضي عنه عن سائر الجماعة التي اعتقلت معه، ولما عاد الى مراكش استقدمه اليه واعاده الى سالم نعمته وعزه. توفي في مراكش يوم الخميس التاسع من شهر ديسمبر 1198م.
ومن اثار ابن رشد، انه كتب جوامع كتب في الطبيعة والالهياتوالالهيات مثل كتاب الفلسفة جوامع ما بعد الطبيعة وشرح كتاب ما بعد الطبيعة لارسطواطاليس وتلخيصه مسائل وقعت في العلم الالهي في كتاب الشفاء لابن سينا ومسالته في الزمان، و مقاله في فسخ شبه من اعترض على الحكيم والبرهان في وجود المادة الاولىؤ وتبين ان برهان ارسطو هو الحق والبين، وفي المنطق، كتب الضروري في المنطق وتلخيص كتاب البرهان لارسطوطاليس وشرح كتاب القياس لارسطوطاليس وكتب مقاله في التعريف بوجهة نظر ابي نصر في الموضوعة في صناعه المنطق، و التي هي بأيدي الناس بوجهة نظر ارسطوطاليس فيها، خالف ارسطوطاليس في كتاب البرهان من ترتيبه، ونظّم قوانين البراهين والحدود في مقاله عن قياس الشرط، وشرح كتاب البرهان لآرسطوطاليس وكل المقولات في المقدمة المطلقة، كتب مقالة في جهة لزوم النتائج المقياس المختلطة. كتب في الفلك والطبيعيات مثل تلخيص كتاب السماء الطبيعي لارسطوطاليس وشرح كتاب السماء والعالم لارسطو طاليس وشرح كتاب الاوسطقسات لجالينوس.
اما فلسفه ابن رشد فمعظمها مشتمل على شرح كتب ارسطو او تلخيصها او تعليق عليها لذلك سمي ابن رشد بالشارع وهو اللقب الذي اطلقه عليه داني في كتاب الملهات الالهيه، لم يكن اول شارع عربي لتأليف ارسطو فان طريقته في الشرح تمتاز على طريقه الشروح المتقدمين عليه.
حيث يمكن تقسيمها إلى التالي:
▪التوفيق بين الحكمة والشريعة، لم يكن ابن رشد اول الفيلسوف حاول التوفيق بين الدين والفلسفة فقد سبقه الى ذلك العديد من الفلاسفة قبل الاسلام وبعده. كما فعل الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل.
▪النظر الفلسفي مأمور به في الشرع حيث قال ابن رشد في الصفحة الاولى من كتاب فصل المقال ان غرضه من هذا الكتاب والفحص عن جهة النظر الشرعي.
▪ وجوب الاستعانة بما قاله القدماء، اذا كان من العسيري ان يقف واحد من الناس من تلقاء نفسه على جميع ما يحتاج اليه من القياس العقلي كان من الواجب ان تستعين على ذلك بعضها ببعض حتى تكمل المعرفة.
▪ الشرع ظاهر وباطن، ويقول ان السبب في احتمال الشرع على ظاهر وباطن اختلاف فطر الناس وتبين قرائحهم في التصديق والسبب في وجود الظواهر المتعارضة فيه تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينهما.
▪ قواعد التأويل، التأويل ضروري للتوفيق بين الظاهر شرع وباطنه كما هو ضروري للتوفيق بين الدين والفلسفة.
▪ وحده الحقيقة، وهو توفيق بين الحكمة والشريعة.
◾ الرد على ابي حامد الغزالي في كتابه تهافت التهافت، دافع عن الفلسفة دفاعا قوي في كتاب مفرد، لبيان مراتب الاقاويل المثبتة في كتاب التهافت، في التصديق والاقناع و القصور، اكثرها عن رتبة اليقين والبرهان، فقد رماه بالقصور في فهم الحكمة على حقيقتهاحقيقتها، لأنه لم ينظر الا في كتب ابن سينا، فألحقه القصور في الحكمة من هذه الجهة.
▪ مسألةُ تقيده من العالم، يتميز ابن رشد عن سابقيه في فلاسفة الاسلام، بتصور مسألة القدم تصورا لا لبس فيه، فالعالم في نظره كما هو في نظر ارسطو، ازلي التغير وفي جملته واحد لا يجوز عليه العدم، ولا يمكن ان يكون على غير ما هو عليه، وليس هناك ايجاد من عدم ولا عدم بعد وجود، لان كل ما يحدث فهو خروج من القوه الى الفعل، ورجوع من الفعل الى القوه.
لم يسلم ابنُ رشد من النقد اللاذع إلى يومنا، غير أن ما قدمه يعد كنزاً لمن يحسن تصفيته من شذوذ الفلسفة المتطرفة.
#عمادالدين_زناف
المقال 199.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق