التصوّف كما لم تقرأ عنه من قبل.
سيكونُ مقالاً شبه مفصّل، وان كان من الصّعب أن أقف عند كُل مرحلة أو شخصية بما يَليق به المقام، أو الحادثة، سواءً نافعة أو ضارّة، حيثُ سيكون مُختصر مُطوّل عن أصول التصوّف، وما الحق فيه والباطل، سيكون عبارة عن مقال تاريخي يُمكن التحقق من كل نقطة فيه، ليس الغرض منه أن أدافع أو أسيئ، لذلك لا أريد تعليقاً متشدداً في العداوة، ولا تعليقاً فيه غُلو في الحبّ.
أصلُ التصوّف هو الاحسان، أن تعبُد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فهو يراك. هذا التعريف العام الذي اتّخذه الصوفية الأولون، متخذين هذا الحديث كمنهاج أساسي لتأطير وتهذيب سلوك الفرد.
في بداية القرن الأوّل للهجرة، لم تكن الكتابة معروفة الا قليلاً، لا في العقيدة ولا في الفقه، الا في السنة الشيء القليل. فقد كان الصحابة على قدر كاف من الدراية بلسان العرب، وفهم الآيات لم يكن عسيراً عليهم كما في القرون التي ستليهم. أي كان التلقّي باللسان بشكل أساسي، في زمن أتباع التابعين، اتعست دولة المسلمين، وزادت قضاياهم باختلاف نفوذهم في الأرض، فقد تداخلت ثقافات ولغات ومناخات وعادات جديدة لم يكن يعرفها الأولون. فصارت الحاجة الى الكتابة وحفظ العلوم أمراً مُلحّاً. انقسم الكُتّاب والمُدوّنون الى أقسام، كبـار السّادة كأبي حنيفة وجعفر الصادق كان منهجهم عامّاً متقارباً، لم تكن فيه دراسة تخصصات مثل اللغة والنحو والبلاغة، بل كان الخلاف في العمل بالرأي أو التمسك بالنص.
سريعاً جاء مالك والشافعي وأحمد وسفيان الثوري والأوزاعي، حيث انتشرت مدارس عدّة تُفصّل ما كان يُفهم سجيّةً عند العرب، فأصبح هناك تفصيل المُفصّل وتجزيئ المُجزّأ، فحافظ مالك على لسان الرواية فقط وصنّف الموطّأ والمدوّنة، فجاء تلميذه الشافعي وصنّف في غير الرواية كتباً في الفقه كالأمّ والرسالة. وهكذا، كلما تقدّم الزمن زادت التخصّصات، والكتابات المفصلة، بسبب النقص في المُكنة اللغوية كما أشرت، وكذلك زيادة المسائل واختلاف الظروف الجغرافية لأرض الإسلام، وكذا اختلاف ثقافاتهم وبيئتهم، فكان يجب أن تكون هناك بعض المهارات والمرونة، لأن الدين جاء لليسر وليس للعسر. فاشتغل أهل الكلام بالعقيدة، وأهل الفقه بالأحكام، واهل النحو في تعليم لغة العرب، وفي القرن الرابع تقريباً، بدأ التدوين في علم القراءات أيضاً.
لكن لم يُدوّن شيء في الاحسان، أي علم الأخلاق عند المسلم، الذي هو الشرط الثالث في الدين، بعد الإسلام والايمان، فقد كان التعبّد يؤخذ بالنظر والنصائح من كبار الشيوخ والعلماء، كان الفقهاء الذين ذكرتهم أهل تقى وزهد وأخلاق وتورع، فأخذ عنهم تلاميذهم ذلك. كيف لا وقد كان مالك يأخذ الحديث عن نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وتسمى بالإسناد الذهبي، أي كان حديث عهد بروح الإسلام. لكن الزّمن تغيّر، مع توسّعات بني أمية وبني العبّاس، فزاد المال وانفتحت زهرةُ الحياة الدنيا، وانفتح العرب على العلوم والفلسفة والثقافات الجديدة، والمعلمون الذين أخذو عن الصحابة وأهل البيت والتابعين واتباع التابعين موجودون، لكن تعاليمهم كانت دائما بالكلام وليس بالأوراق، فيعلمون الناس التوبة والمُراقبة والذّكر، لكن مع زيادة الترف، صار تدوين تلك التعاليم امراّ ضروريا، مثل الفقه والعقيدة والحديث والقراءات، فكل تلك العلوم ستصبح لأخذ المناصب والمال إذا كانت بلا أخلاق وورع وعمل لليوم الآخر. وكان هؤلاء المعلمون هم الصوفية.
تكلّمت في مقالٍ سابق عن تعريفات وأصول هذه الكلمة لن أعود اليها، مثل لبسهم الصوف الرخيص، أو أخذ الصفوف الأولى. انما سوف أركّز عن شيءٍ أهم، الصوفي لا يهتم بالعبارة انّما يهتم بالمعاني، لذلك يأتي النحوي ليفصّل كلام صاحب المعاني. فكان من أوائل من كتب فيه هو أبو بكر الكلاباذي في التعرف لمذهب التصوف، فبدأ في كتابه بترجمة أعلام التصوّف المتقدمين، مثل أبي سليمان الداراني، فجاء بعده أبو القاسم القًشيري، وصنّف كثيرا في التراجم، والترجمة للشخص يعني بها هنا هو تعريف الأشخاص وتفصيل سيرتهم وحياتهم، كمالك بن دينار والفضيل بن عياض، فهو يقول إن الأخلاق تؤخذ من تفاصيل حياتهم، فكانت هذه هي طريقتهم في التدوين عن التصوّف. فيأتي بعده زكريا الأنصاري شارحاً للقُشيري، قائلا إنه ترجم بمن سبقت له من الله جفوة، أي انهما أذنبا ثم تابا وأصبحا من أولياء الله، وهو أصل من أصول علم الأخلاق أو السلوك كمت ذكرتُ في البداية، فيفهم السّالك من التلاميذ أن التوبة هي أول ما يجب فعله منم المقامات. ثم يأتي ابن عطاء الله السكندري بعدهم قائلا، ربّ معصية أورثت ذلاً وانكسارا خير من طاعة أورثت عزّة واستكبارا.
فتوزّع هؤلاء عبر بقاع الأرض، في الشام كان الداراني، في خراسان شقيق البلخي، في العراق معروف الكرخي، في مصر ذو النون المصري، في بلاد المغرب أبو الحسن الشاذلي، وكلّهم أخذو السّند ( في الظّهار الا من زاد من عنده، وسوف اتكلّم عن الأمر لاحقا ) في الاحسان من شيوخهم الى ان يصلو الى كبار الصحابة أو الى الرسول عليه صلوات الله.
فالسؤال الذي يطرحه الناس، ما الطُرق الصوفية، ولماذا هذه التسمية بالذات؟
الطريقة تختلف من منطقة الى أخرى، ومن قارة الى أخرى، فقد راعى هؤلاء الصوفيون ثقافات وأعراف وعادات وتاريخ تلك الشعوب، وعلى إثر ذلك صاغوا واخذوا من الشريعة عبارات الذكر أو السلوكيات بحسب قدراتهم وحسب طبيعتهم، فتجد لأهل اندونيسيا وماليزيا الحب الكبير لعبد القادر الجيلاني، لأنه كان سببا في اسلام أجدادهم، وهم يسلكون طريقته في الذكر. وكمثال، كان الشاذلي فقيها ومتكلماً، جال بلاد المغرب الى مصر، فقد كانت طريقته بحسب طبيعة أهل شمال افريقيا ومزاجهم وطبيعتهم، فاذا كانت طبيعتهم الخفة والطرب، كان "الذكر الجهري" طريقةً لهم. مستندا على "من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه".
عكس بهاء الدين شاه نقشبند، في مكان آخر وأرض أخرى تماما، ما وراء النهر خرسان الكبرى، طبيعة أهلها وعقائدهم الأولى كلها صمتٌ وتأمّل وهدوء، فاختار لهم من شرع الله الواسع طريقة يتقبلونها في السلوك والذكر، وهو "الذكر الخفي" مستندا الى "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي".
كل هؤلاء كان يندرجون تحت مذهب من المذاهب الأربعة، سنّة أشاعرة او ماتريدية (أبو الحسن الأشعري ،أبو منصور الماتوريدي).
وقيل، ان معظم علماء الأمة، كانوا متصوّفة، مثل النووي والسبكي والسيوطي، وحتى ابن تيمة رغم انتقاده اللاذع لبعض المتصوفة، الا انه قد دُفن في مقابر الصوفية في الشام، وكان كلامه عن عبد القادر الجيلاني كلاما راقيا، حيث قال، "الشيخ عبد القادر ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمراً بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية."حتى تلامذته كابن القيم كتبوا في المتصوفة بشكل عادل، ككتاب مدارج السالكين، والذهبي الذي كان يرى التبرّك بالأولياء وزيارة قبر النبي.
كان للمتصوّفة القدم في تكوين رجال عسكريين، عكس ما هو معروف، فقد كانت مدارس الوزير نظام الملك هي الشعلة التي علمت الناس المروءة، فكان الشيرازي والجويني والغزالي هم شعلة التكوين لعماد الدين زنكي، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وكانوا كلهم من المتصوّفة. كذلك كان محمد الفاتح صوفياً، ومعظم سلاطين العثمانيين من بعده، دون ان ننسى عمر المختار، الذي كان سنوسي الطريقة، والأمير عبد القادر أيضا معروف تصوّفه.
ما هي المؤاخذات التي يحملها البعض عن الصوفية؟
هي تلك الطرق الغريبة العجيبة من رقص ومجون وتعويذات وكلام فيه شركيات، واختلاس أموال الناس والكذب عليهم، تُنسب زوراً الى الصوفية الأصليّة التي تكلمت عنها، فلم يبقى شيء في الإسلام الا واختُرق وشُوّه تشويهاً، وقد اخلط الكثير من الخبثاء بين التصوّف والتأمل والهندوسية وخرجوا ببدع ليس لها أي صلة بالإسلام أصلا.
كذلك، هناك بعض الأمور ليست لها سند الى النبي، يُقال ان لها منفعة بالتجربة، انقسم فيها الناس الى مؤيد لها لما قد ينتفع بها الناس، مثل الصلاة التازية (الصلاة النارية، ابحث أكثر)، ومنهم من يرفض أي شيء لم يرد بسند مُتّصل الى النبي عليه صلوات الله (الأصولية).
في هذا المقال، حاولت الالمام بشكل مكثف عن التصوف، بحيادية، أعلم أنني لم أذكر الكثيرين، وأسقطت بعضهم، لكنني سعيت جاهدا عدم الاطالة، وذكر الصوفية من زاوية لا يعرفون عنها، لأن معظم ما يعُرف عن الصوفية هم جلال الدين الرومي، وابن سبعين، والحلاج، وابن العربي، وهم أقرب الى الأدب والشاعرية والفلسفة العربية عن الذين ذكرت، وكل واحد منهم، يحتاج الى دراسة مخصصة، ليقال عنه ماله وما عليه، فمن الصعب أن تذكر أحدهم بسوء
وتمر، أو بطيبة وتمر بعدها مرور الكرام.
المقال 211
#عمادالدين_زناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق