هناك إشارات عديدة تجعلنا نظن بأن الانسان يُخضع نفسه لما يُسمى "التعويض" لمحاولة إرضاء نفسه، وإعادة هيكلتها، لجعل صورته أحسن في كل مرة، والتعويض بالمفهوم العام هو استعمال شيء عِوض شيء آخر، والتعويض بشكل عام يعود للشعور بعهد الرضى بالخيار الأول، إذا هو ناجمٌ عن ردّة فِعل سلبية عن القرار الأوّل.
التعويض يطال كل ما يُمكن للإنسان ان يُغيّره، والأمثلة تَكاد لا تنتهي، بحيث يمكننا ترتيبها الى جانبين مُتداخلين، نستخرج منهم الأمثلة اللازمة:
الجانب المعنوي، والجانب المادي.
في الجانب المادي، يخضع الانسان لهذا المفهوم بشكل شبه يومي، وكمثال، يحدثُ أن يُغيّر المرء رأيه لأكثر من مرّة في القميص الذي يريد الخروج به صباحاً، لاعتبارات معنوية، كأن يُلاقي شخصاً معيّناً، أو للذهاب لدعوة ما، أو حسب الأحوال الجوية، لتفادي أي نوع من السُّخرية أو الحكم المُسبّق عنه، كذلك يَحدُث أن يشتري قارورة ماء عِوض شرب القهوة في آخر لحظة، أن يأخذ معه هدية ما، أو لا يأخذ معه شيئاً.
يُغيّر المرء رأيه في اختياراته بشكل تلقائي، في كلّ مرّة لا يجد فيها راحته، فالاختيار لا يكون موضوعيّاً البتّة.
الاختيارات البسيطة التي تُعوّض، تبقى غير محسوسة، لا من الشخص نفسه، ولا من محيطه، الى غاية الآن المفهوم بسيط ولم نبدأ في تفكيك الأمر.
معنوياً، يُعوّض الكثير منّا أفكارهم بأفكار أخرى، سواءً لتطوّر التجربة الحياتية، مثل الخضوع لمغامرات جديدة، أو لتطوّر التجربة العلمية (لأن المعلومات الجديدة عبارة عن تجارب فكرية في العقل)، وكمثال بسيط، لو عدنا لنصوصِ كتبناها منذ أسبوع أو أسبوعين، سنجد فيها عيوباً كثيرة، لأن التجربة الفكرية المستمرّة، (لمن يَعيش بشكل عادي ومتوازن) جعلتنا نتجاوز الفكرة الأولى، ودفعتنا مباشرة لأن نُعوّضها بالفكرة الثانية، التي نراها أقرب للحكمة وللحقيقة (العلمية والمعنوية)، قد تكون كذلك أو قد لا تكون، لأن الحُكم على الأشياء بالصّلاح يبقى دائما أمراً تأويلياً، أما المُغامرة الحياتية، فهي تُشبه الملاقاة الأولى بين الصبيّ والنّار، ذلك اللّقاء الأوّل الضروري يُصعّد من وعي الصبيّ لدرجات كبيرة، بحيثُ يُفهمه بأن هناك خطر ما في المحيط الذي يعيش فيه، فينضُج عنده الخوف السّليم.
فتتوالى التجارب مع الكهرباء، الماء السّاخن، الشّوكة.. فيصبحُ في كلّ مرّة أقلّ اندفاعاً، وأكثر تفكيراً في الخطوة التالية، بحيث يتماشى هذا الوعي المعنوي والفكري مع الادراك المادي للأشياء، وكذلك يتماشى مع نموّه الجسدي، لمقاومة وتحمّل تحدّيات أكبر، وتعويض الأفكار البسيطة بأُخرى أكثر تركيباً.
ماذا عن التَعويض العشوائي؟
ان الانسانَ الأخير، او ما يُسمى بابن ما بعَد الحداثة، لم يَعُد يدرك الأشياء بمفهومها الطبيعي والفكري والغرائزي السّهل الذي كان عليه الانسان الأوّل أو المتوسّط، فقد بدأ يبتعدُ شيئاً فشيئاً عن الأشياء التي تُساعده على النُموّ بشكل طبيعي من الرضاعة الى الصّبى، ومنهما الى سن البلوغ ثم الكهولة فالشيخوخة.
وأصبحنا نُلاحظ أن العديد من الناس يُعانون بما يُسمى "المُراهقة المُطوّلة"، وفي أسوأ الأحوال بـ "مُتلازمة الصبيانية" خاصة عندَ النساء.
والمَقصود بالمراهقة المطوّلة أو الممدودة، هو بقاء المرء عالقاً في الاضطراب والتردّد مع كل افتراضية قرار، فتكون ردّة فعل "المُراهق البالغ" بأن يُخلط الحابل بالنابل، وان يُعوّض القرار الأوّل بقرار أقلّ فعاليّة، وفي كل مرّة ينزل بجدودة تعويضه الى الحضيض، ويَدخلُ في القرص المغلق في توالي القرارات السيّئة الى غاية الدخول في أزمة نفسية.
أما مُتلازمة الصبيانية، ان تُعوّض المرأة (والرجل في بعض الأحيان)، القرارات الأولى بقرارات طُفولية، أي، الانتقال من القرار العاقل القريب من العلم والمنطق، الى قرار يقترب أكثر فأكثر الى العاطفة والشعور، فنجد أن المرأة وبعد الصّدمات الحياتية (العلاقات)، تنزل الى تعويض الانسان بالحيوان، وفي أسوأ الأحوال الى الدُّمى والألعاب، والملابس الوردية الفاتحة، والمستلزمات التي كانت تستعملها في زمن بعيد.
إن المصابين بهذا الدّاء، ينتهجون الاقصاء، اقصاء الأصدقاء والمحيط والعلاقات، أن أفضل طريق لتعويض الخسائر، هو العودة الى الخلف، وتفادي خوض التجارب الجديد، وتفادي المغامرة، لتعويض الألم، يرون أن الحلّ هو العودة للبراءة الطفولية، دون وعي ان تلك الفترة قد انقضت بلا عودة، لأن المحيط والحياة، وحتى الجسم والعقل، لن يبرّروا لك تراجعك وانحطاطك الفكري، المادي والمعنوي.
التعويض السليم، هو الهروب نحو الأمام.
التعويض المَرضي، هو الهروب نحو الخلف.
__
المقال 152.
إذا أكملت المقال، وأُعجبت بالطّرح، انشرهُ مع محيطك.
Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف
#عمادالدين_زناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق