الأحد، 22 يونيو 2025

مجتمع الجزائر قديما ( عاتري قفصي وهراني سيفاري)





الإنسان في الجزائر قديما : العاتريّ، القبصي، الوهراني والسفاريّ.
مقال عماد الدين زناف

شهدت منطقتنا (شمال أفريقيا) وجودًا بشريًا مبكرًا ومستمرًا منذ بداية الخلق في الأرض، وتُعد ثلاثُ ثقافات ما قبل تاريخية في المنطقة من أبرز مراحل هذا الوجود البشريّ: الثقافة العاترية (Atérien)، والثقافة الإيبروموريسية (Ibéromaurusien) المعروفة أيضًا بالوهرانية (Oranien)، ثم الثقافة القفصية(Capsien). هذه الثقافات تغطي فترات زمنية مختلفة كما توضحه أبحاث العلماء، والحديث هنا عن بدايات العاترية في حوالي 145.000 سنة قبل الميلاد إلى حوالي حدود 6000 سنة قبل الميلاد، تمثل تطورات تقنية وسلوكية وإنسانية هامة في تاريخ شمال أفريقيا وأبعد من ذلك. تُعدّ الثقافة العاترية إذا أقدم هذه الثقافات، حيثُ امتدت تقريبًا بين 145.000 إلى 20.000 سنة قبل الميلاد، انتشرت في نقاط مختلفة من وسط ليبيا إلى أقصى الغرب، وارتبطت بصناعة حجرية مميزة، تتسم باستخدام رؤوس أدوات حجرية ذات قاعدة مشذبة (pedonculées)، يُعتقد أنها كانت تُركب على مقابض خشبية، مما يُشير إلى تقدم في تقنيات الصيد والبناء أيضًا، ما دفع الباحثين إلى تقريب النشاطات الحضارية بين مصر القديمة وباقي شمال إفريقيا. كما وُجِدت دلائل واضحة على ممارسة رمزية، مثل استخدام صبغة المغرة الحمراء (ocre rouge)، وحلي مصنوعة من الأصداف البحرية، ودفن موتى بشكل بدائي، ما يعكس نشاطًا ذهنيًا متطورًا لدى إنسان تلكَ الحِقبَة. وإذا أردنا التوغّل أكثر في أصول هذا الإنسان، فقد نجذ أن دراسات الحمض النووي القديم تشير إلى أن حاملي هذه الثقافة ينتمون إلى الإنسان العاقل (بالمصطلح العلمي المتداول)، وليس إلى النياندرتالي (Homo neanderthalensis) كما كان يُعتقد سابقًا.
بعد هذه الفترة، ظهرت الثقافة الإيبروموريسية (Ibéromaurusien)، والتي تعرف أيضًا بالثقافة الوهرانية (Oranien) ، التي سميت هكذا نسبة إلى المنطقة التي اكتُشفت فيها بعض أهم مواقعها، كما هو معروف، منطقة وهران تشمل معظم الغرب الجزائري وليس حدود الولاية الحالية. تطورت هذه الثقافة-الحضارة بين 22.000 و10.000 سنة قبل الميلاد، حيث امتدت على طول الساحل لكنها أكثر حصريّة جغرافيا من سابقتها، مع تركزها الخاص في الجزائر الغربية وشرق المغرب الأقصى. تميزت صناعتها الحجرية بطابع دقيق ومصقول (microlithique) إشارة إلى التطور التقني لأسلوب إنسان تلك الفترة، حيث وُجدت أدوات صغيرة مصنوعة من شرائح حجرية، وكذا أزاميل ومكاشط، كما كشفت الحفريات عن قبور غنية، بها بقايا بشرية من نوع "مشتة أفالو" (Mechta-Afalou)، مصحوبة بأدلة رمزية كالحلي والمغرة، وبقايا أثارها ما زالت تُكتشف في مناطق عين الصفرة بالنعامة مؤخرا. في السابق القريب، اعتُقد أن الجماجم الموجودة تعود إلى سلالة بشرية مختلفة (مختلطة)، ولكن التحاليل الجينية الحديثة بيّنت أنهم ينتمون إلى مجموعة شمال أفريقية ذات مكون أوروبي-آسيوي قديم يعود لفترة الخروج الأول للإنسان من أفريقيا، دون علاقة مباشرة مع الأوروبيين المعاصرين لهم في العصر الحجري الأعلى. Science, 2018* ثم جاءت الثقافة القفصية (Capsien)، والتي ظهرت ما بين 10.000 و6.000 سنة قبل الميلاد، وتركزت أساسًا في ضواحي مدينة قفصة النوميدية شرق الجزائر (مع كل من تبسة، سوق أهراس وقالمة). إذ تطورت فيها الصناعة الحجرية بشكل كبير، وهي الأكثر ثراءً وأكثرها معرفةً لدى المختصين لقربها الزمني، حيث كثُرت الأدوات الصغيرة الدقيقة، واستخدمت العظام والفخار في بعض المواقع المتأخرة. كذلك عرفت هذه الثقافة تطورًا كبيرًا في الممارسات الرمزية والفنية، إذ انتقل الإنسان من الحاجة إلى الفن (الرخاء)، مثل النقوش على الحجارة والعظام، ودفن الموتى مع أصداف ومغرة، ما يدل على طقوس جنائزية معقدة وبداية انتشار الطقوس الدينية. فاقتصاديًا، انتقلت المجتمعات "القفصية" نحو استغلال موارد متنوعة، كجمع الحلزونات البرية (escargots) وصيد الحيوانات الصغيرة، مع مؤشرات أولى على بداية الاستقرار شبه الدائم في بعض المواقع، مما يُعد تمهيدًا مبكرًا للمرحلة النيوليتية. . African Archaeological Review, 1984*
وعكس ما كان شائعًا في النظريات القديمة وما هو "للأسف" منتشر في المعلومات غير المستحدَثَة، لم تكن هذه الثقافات ناتجة عن تأثيرات أوروبية أو شرقية البتّة، بل تكشف الحفريات والدراسات الحديثة عن تطور محلي مستقل بشكل كبير جدًا، مع تفاعل انتقائي مع محيط البحر المتوسط والجنوب الصحراوي.
 لعبت شمال أفريقيا (مناطق واسعة في جزائرنا الحالية) دورًا حيويًا في تطور الإنسان، ليس فقط كممر عبور وربط حضاري متوسطي أفريقي مشرقي، بل أيضًا كمركز إبداع ثقافي وتقني منذ العصر الحجري الأوسط.
الآن بعد هذه الجولة التعريفية، السؤال المُتبادر على الذِهن : ما العلاقة بين الثقافات العاترية والقفصية والإيبروموريسية (الوهرانية) وآثار الإنسان في سيفار (وغيرها)؟ لأننا نقرأ ونسمع ونرى عنها الكثير، لكننا ما زلنا ندرها بمعزل عن أي ثقافة أو حضارة قائمة ومعروفة. 
إن منطقة طاسيلي ناجر الواقعة جنوب شرق الوطن، هي أحد أغنى وأهم المواقع الأثرية في العالم لما قبل التاريخ، وتحديدًا لما يعرف بـ"الفن الصخري الصحراوي". فكما شهد شمال أفريقيا (تحديدا مناطق واسعة من الجزائر الحالية) سلسلة من الثقافات الحجرية الكبرى مثل العاترية (Atérien)، الإيبروموريسية (Ibéromaurusien) والقفصية (Capsien). يثير هذا التنوع الزمني والجغرافي سؤالاً جوهريًا في علم الآثار عن ما مدى وجود صلة ثقافية أو تطورية بين هذه الثقافات القديمة وسكان منطقة طاسيلي ناجر، خصوصًا أولئك الذين تركوا بصماتهم على جدران كهوف سيفار وغيرها من المناطق المجاورة؟ عن حياة زاخرة جميلة من ناحية، وكذا مخيفة ومثيرة من ناحية أخرى.
بحسب مطالعاتي المتكررة، استخلصت أنه لا بد من التمييز بين مستويين مختلفين من الدراسة في هذا الأساس: المستوى الأثري التقني (أي صناعة الأدوات الحجرية والأنشطة الاقتصادية)، والمستوى الرمزي والفني (مثل النقوش والرسوم)، وكغير مختص، لا يمكنني أن أصنع ربطا بينهما دون دليل علمي منشور. فالثقافات العاترية والإيبروموريسية والقفصية تُعرف أساسًا عبر الأدوات الحجرية ومخلفات الدفن، بينما تُعرف طاسيلي ناجر بشكل رئيسي عبر الفن الصخري، الذي يعود تاريخه – حسب التأريخ بالكربون المشع – إلى ما بين 10.000 و2.000 سنة قبل الميلاد، أي أنه يغطي الفترة القفصية والنيوليتية والصحراوية، وليس الفترة العاترية التي تسبقها بكثير، إذا لدينا مادة علمية مهمة جدا لفهم ودراسة الفترة. 
تأتي الروابط الزمانية لتشير إلى أن المرحلة النيوليتية أي حوالي 7000–3000 ق.م، أي ما بعد القفصية، هي الأقرب زمنياً لفترة ازدهار فنون طاسيلي ناجر، خاصة ما يُعرف بـ"مرحلة البقر" (Bovidian period). وقد عرفت هذه المرحلة تحولاً بيئيًا كبيرًا في الصحراء الكبرى، حيث كانت المنطقة تتمتع بمناخ رطب نسبيًا، مما أتاح الاستقرار البشري، الرعي، وترك آثار ثقافية غنية تمثلت في رسوم الحيوانات والطقوس الدينية والأنشطة اليومية، ومن يرى الخرائط الجغرافية العلمية لتلك الفترة، لرأى قُرب بحيرة عظيمة جدا من سيفار، ما يشرح النشاط الاجتماعي والاقتصادي فيها، وهذا ما يفسر أيضا وجود مياه جوفية عظيمة تحت هذه الأرض. وبالرغم من غياب أدلة مباشرة تربط تقنيًا بين أدوات القفصيين الشماليين وسكان طاسيلي، إلا أن التراكم الثقافي في شمال أفريقيا، وخاصة من خلال الهجرات الجنوبية، يشير إلى أن سكان النيوليت الصحراوي الذين خلّفوا رسومات سيفار قد يكونونَ امتدادًا تطوريًا أو متأثرين بالثقافات التي سبقتهم، خاصة القفصية، من حيث الرمزية واستخدام الأصباغ وممارسات الدفن، وهو ما يُفترض من التشابه في استخدام المغرة (Ocre rouge)، واختيار مواقع مرتفعة للدفن والرسم.. وهذا في ذاته تقدم رهيب في فهم سر هذه المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، يشير باحثون مثل Jean-Loïc Le Quellec وHenri Lhote إلى أن مرحلة "رعاة البقر" في فنون طاسيلي تتزامن مع وجود ثقافة رعوية – زراعية، وقد تكون هذه المرحلة مرتبطة بما يسمى في الأدبيات الغربية بـ"النيوليت الصحراوي" (Saharan Neolithic)، وهي حضارة لاحقة للقفصيين في الشمال، فهل يمكننا أن نتهوّر بقول أنه اتحاد شعبي قديم بدأ يترسّخ في تلك المنطقة منذ تلك العصور؟ الفكرة غير مستبعدة.  
كما أن الأبحاث الجينية الحديثة مثل دراسة Lazaridis et al., 2018 تظهر أن سكان شمال أفريقيا "بعد القفصيين" تفاعلوا وراثيًا مع شعوب قادمة من الشرق والجنوب، وهو ما يعزز فرضية حدوث امتداد سكاني وثقافي من الساحل المتوسطي نحو أعماق الصحراء في فترة النيوليت. وما يدعم هذه النظرية هم ثلاث أشياء :
1. الامتداد الجغرافي والتدرج البيئي، إذ من الممكن أن القفصيين أو من خلفهم انتقلوا جنوبًا تدريجيًا، خاصة خلال فترات الرطوبة الكبرى (Green Sahara) التي امتدت تقريبًا بين 9000 و3000 ق.م، ما أتاح الاستيطان في عمق الصحراء الكبرى، التي لم تطن صحراءً في تلك الفترة. 
2. الاستمرارية الرمزية واستخدام الأصباغ، رسوم الحيوانات، الشعائر الجنائزية، كلها عناصر ظهرت أولاً في الثقافات المتقدمة لشمال أفريقيا قبل أن تتخذ شكلًا أكثر تطورًا وفنية في فنون طاسيلي ناجر.
3. الشبه الأنثروبولوجيفي بعض الرسوم في طاسيلي (مثل الكائنات ذات الرؤوس المستديرة أو الهيئات العملاقة) قد تشير إلى معتقدات أو رموز بدائية بدأت في مراحل أقدم، مع فرضية تطورها أو تحورها مع الزمن والموقع.
_

بعض المصادر العلمية الأساسية التي اعتمدت عليها :
• van de Loosdrecht et al., Science, 2018 : https://www.science.org/doi/10.1126/science.aar8380
• Hublin et al., Nature, 2017 : https://www.nature.com/articles/nature22336
• Camps G., Les civilisations préhistoriques de l’Afrique du Nord et du Sahara, CNRS, 1974
• Tixier J., Typologie de l’Atérien, L’Anthropologie, 1967
• Lubell D. et al., African Archaeological Review, 1984 : https://doi.org/10.1007/BF01117461
• Le Quellec, J.-L. (2004). Du Sahara au Nil. Peintures et gravures d’avant les pharaons. Éditions Errance.
• Lhote, H. (1959). Les fresques du Tassili. Arthaud, Paris.
• Smith, A.B. (2005). African Herders: Emergence of Pastoral Traditions. AltaMira Press.
• Kuper, R., & Kröpelin, S. (2006). Climate-controlled Holocene occupation in the Sahara: Motor of Africa’s evolution. Science, 313(5788), 803–807. https://doi.org/10.1126/science.1130989
• Lazaridis, I. et al. (2018). Genomic insights into the origin of farming in the ancient Near East. Nature, 536, 419–424. https://www.nature.com/articles/nature19310

🚀 الروابطة المباشرة للمطالعة :
• https://archive.org/details/revue-generale-des-sciences_1933-11-15_44_21/page/606/mode/2up?q=at%C3%A9rien&view=theater
• https://archive.org/details/libyca_1955_3/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/bulletin-de-la-societe-histoire-naturelle-de-afrique-du-nord_january-february-1956_47_1-2/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/bulletin-de-la-societe-histoire-naturelle-de-afrique-du-nord_1934-11_25_8/page/334/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/encyclopedie_berbere_n_16/encyclopedie_berbere_n_1/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/histoire-de-lhumanite-vol-vii-le-xx-e-siecle-de-1914-a-nos-jours/histoire%20de%20l%27humanit%C3%A9%20-%20vol%20I%20-%20de%20la%20pr%C3%A9histoire%20aux%20d%C3%A9buts%20de%20la%20civilisation%20/mode/2up?q=at%C3%A9rien

#عمادالدين_زناف #الجزائر #استرجع_تراثك

الاثنين، 9 يونيو 2025

البونيقيّة لغة شمال إفريقية




البونيقيّة.. لغةٌ شمال إفريقيّة.
مقال عماد الدين زناف.

كانت اللغة البونيقية مزيجًا محليًا مميّزًا بين اللغة الفينيقية الطارئة على شمال إفريقيا، واللغة الليبيقيّة الأصلية القديمة.
وقد كانت تنتمي إلى العائلة السامية الغربية من حيث اللسان المحكي، كما صنفها شلوزر في القرن الثامن عشر. وقد تطورت هذه اللغة نتيجة الهجرات الفينيقية إلى شمال إفريقيا، واستقرارهم في بعض سواحلها، وخاصة في مدينة قرطاج التي تأسست نحو سنة 814 قبل الميلاد، ومع مرور الزمن، وبسبب الاحتكاك الطويل بالسكان المحليين الأمازيغ، تبلورت البونيقية كلهجة مميزة عن الفينيقية الأم التي سريعا مع تركت المكان لعدة لغات من بعدها، وتطورت تدريجيًا حتى أصبحت لغة مستقلة في الاستخدام الشفهي والكتابي، يتميز بها سكان قرطاج ونوميديا وغرب ليبيا، خاصة ابتداءً من القرن السابع قبل الميلاد تقريبًا، كما توثق النقوش القديمة على الأضرحة والقرابين الدينية¹.

تميزت البونيقية بتأثر واضح باللغة الأمازيغية القديمة، وقد أثبتت الدراسات الألسنية الحديثة وجود مفردات ذات أصل أمازيغي في البونيقية خاصة في مجالات الزراعة والحياة الريفية. ومن أبرز تلك المفردات، كلمات تتصل بالحيوانات، والبيئة، فقد أصبحت ذات أصول مشتركة بين البونيقية واللهجات الأمازيغية القديمة، إذ نستطيع القول بأن البونيقية أنتجت المعاني والمصطلحات الأمازيغية ووثقتها كتابيا بهذه اللغة، لأن الأمازيغ لم يكونوا يُعنَون بالتدوين والكتابة، إذ تبين الأبحاث بأنهم تخلوا عن فعل ذلك منذ قرون بما تم اكتشافه من لغتهم القديمة في الكهوف (تاسيلي ناجر) والصخور والجدران المترامية المسافات في شمال إفريقيا.

والواضح أن قيام دولة قرطاجة ونوميديا كانا الفاعلان الأساسيان لضرورة الكتابة والتدوين، ما أنتج لغتهم المعاصرة المميزة.

كما أن أسماء مواضع وقبائل محلية أمازيغية استُعيرت كما هي داخل الكتابات البونيقية، مما يدل على تمازج وانصهار لغوي واجتماعي عميق، بهذا تشير بعض الأبحاث أيضًا إلى أن البنية الصوتية للبونيقية، في مراحلها المتأخرة خاصة، قد تأثرت بإيقاع الأصوات الأمازيغية، كما يُستدل من مقارنة النقوش المتأخرة في المناطق الداخلية من تونس والجزائر ².

أما فيما سمي بالعصر الكلاسيكي، أي بين القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد، فقد أصبحت البونيقية هي اللغة الرسمية للدولة القرطاجية، وقد استُخدمت في السياسة والطقوس الدينية والتجارة. وقد ظهرت في تلك الدولة نقوش ثنائية باللغة البونيقية وكذا اليونانية، مما يعكس حجم التبادل الثقافي بين قرطاج والعالم الهيليني (اليونان القديمة) ³. أما من الناحية اللغوية، فقد احتفظت البونيقية في بدايتها بالبنية الفينيقية من حيث الحالات الإعرابية الثلاث، لكنها سريعا ما بدأت تفقد بعض هذه السمات تدريجيًا نحو البساطة.

وبعد تدمير قرطاج على يد الرومان والنوميد عام 146 ق.م، لم تنقرض اللغة البونيقية فورًا، بل استمرت منطوقة في بعض المناطق، خاصة في شمال شرق الجزائر وفي جزيرة مالطا، وفي أواخر القرن الرابع الميلادي، أشار القديس أوغسطين إلى وجود أشخاص يتحدثون "الكنعانية"، قاصدًا بذلك البونيقية، وقد ذكر في كتابه De Doctrina Christiana بعض التعبيرات التي كانت لا تزال متداولة في منطقته آنذاك ⁴.

أما من حيث الأصل العرقي للشعوب المتكلمة بالبونيقية (الأمازيغ وبقايا الفينيقيين)، فلم تكن لهما علاقة بساميي المشرق، لا من حيث النسب الدموي ولا من حيث الثقافة مع انقراض الفينيقية تماما. فبحسب العديد من الدراسات الأنتروبولوجية الكلاسيكية، فإن الفينيقيون لم يكونوا ساميي العرق إنما "حاميين" من حيث الأصل البيولوجي البعيد.د، أي ينتمون إلى ما كان يُصطلح عليه قديمًا بالعرق الحامي، الذي يشمل جزءًا من شعوب شمال إفريقيا من بينها مصر، بينما كانت السامية فيهم لغةً وثقافة فقط، تبنّوها في عصور سحيقة بفعل احتكاكات حضارية في المشرق ⁵.
 وقد أكد هذا الاتجاه عدد من الباحثين الأوروبيين في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، منهم François Lenormant الذي ميّز بين "السامية اللغوية" و"السامية العرقية"، مشيرًا إلى أن الفينيقيين يتحدثون لغة سامية لكن لا ينتمون بالضرورة إلى العرق السامي ⁶.

وكماوتعلمون، إن هذا التمييز العلمي التاريخي ضروري اليوم، وذلك لمواجهة الأطروحات الأيديولوجية التي تربط بين الفينيقيين والعرب دون أسس علمية. فاللغة البونيقية تختلف جذريًا عن العربية (القديمة كالآرامية النبطية، والحديثة في عصر البِعثة) وذلك في البنية الصرفية والنحوية. ويؤكد العديد من الباحثين مثل Giovanni Garbini وKrahmalkov أن العربية والبونيقية تنتميان إلى فرعين منفصلين من اللغات السامية واسعة الدائرة، دون أن تكون إحداهما أصلاً للأخرى ⁷ و ⁸.

كذلك استُخدمت البونيقية في كتابة العديد من النقوش الدينية والتجارية، وكانت تُكتب بأبجدية مشتقة من الفينيقية القديمة تتكون من 22 حرفًا صامتًا دون تمثيل واضح للحركات، ثم أُدخلت لاحقًا رموز ثانوية لتمثيل بعض الأصوات الشبه المتحركة، لذلك سميت البونيقية الجديدة neo punic، وتشمل المصادر الأساسية لدراسة هذه النقوش: Corpus Inscriptionum Semiticarum إضافة إلى أعمال P. L. Agar وKAI التي جمعت أهم النقوش الفينيقية والبونيقية من مختلف أنحاء البحر المتوسط ⁹.

باختصار، إن البونيقية قد تبلورت تأثرا باللغة المحلية الأمازيغية باختلاف مصطلحات الأشياء والأفعال، كما استعارت منها بعض المفردات، وفي المقابل، تسربت بعض الكلمات البونيقية إلى اللاتينية في الفترة الرومانية، كما أثرت سالفتها الفينيقية في اليونانية، منها مثلًا كلمة mustum (عصير العنب) التي يُرجّح أنها مأخوذة من الجذر البونيقي mšt.

ومع دخول شمال إفريقيا في دائرة السيطرة الرومانية وازدهار اللاتينية بشكل كبير، بدأت البونيقية في التراجع شيئا فشيء، خصوصًا بين النخب والمثقفين، كما مر علينا عندما تحدثنا عن جامعة مادورا بسوق أهراس-أقدم جامعة في التاريخ-، إذ كانت الدراسة فيها باللاتينية واليونانية، وذلك ما يعكس فشل البونيقية في التأقلم مع اللغات الحية يومئذ، ثم اختفت تمامًا كلغة مستعملة ومكتوبة في القرون اللاحقة، ويُعتقد أن آخر أثر لها اختفى بنهاية القرن الخامس الميلادي، رغم محاولات بعض الآباء المسيحيين مثل أوغسطين الحفاظ على بعض تعبيراتها في الكتابات اللاهوتية، أو المحاولات الدوناتية لمناهضة الثقافة الرومانية.
_
المراجع؛

¹ M. B. Rowe, Phoenician and Punic Inscriptions: Corpus and Analysis, 1989. 

² K. Jongeling & R. M. Kerr, Late Punic Epigraphy: An Introduction to the Study of Neo-Punic and Latino-Punic Inscriptions, Mohr Siebeck, 2005. 

³ A. Moscati, The World of the Phoenicians, 1999. 

⁴ St. Augustine, De Doctrina Christiana, 397 م. 

⁵ Gabriel Camps, Les Berbères: Mémoire et identité, Editions Errance, 1987. 

⁶ François Lenormant, Les origines de l'histoire d'après la Bible et les traditions des peuples orientaux, Paris, 1880. 

⁷ Frank L. Krahmalkov, A Phoenician-Punic Grammar, 2001. 

⁸ Giovanni Garbini, History and Ideology in Ancient Israel, SCM Press, 1988. 

⁹ Corpus Inscriptionum Semiticarum.
___

▪️Stanislav Segert – A Grammar of Phoenician and Punic.
▪️Johannes Friedrich & Wolfgang Röllig – Phönizisch‑punische Grammatik.

#عمادالدين_زناف #استرجع_تراثك #استرجع_تراثك

الجمعة، 6 يونيو 2025

قبيلة بني فرڨان -وعائلة زناف




أرشيف فرنسي من سنة 1867م عن قبيلة بني فرڨان، 
التي تعد رأسا لعوائل كثيرة جدا ينتسبون إليها
(والتي ننحدر منها أيضا).

▪️نبذة سريعة عن عائلتي وملخص الصفحات:

تعود عائلة زناف إلى قبيلة بني فرڨان كما ذكرت في السابق (كتاب من تاريخ الثقافة في زمورة، تجميع أ.عبد المجيد بن داوود عن عميد الأشراف الشيخ الزموري، فقرة (حي السويقة))، وهذا الكتاب الذي يحمل مراسلات إلى نابوليوت الثالث، من الأرشيف الفرنسي لسنة 1867م، يؤكد أن أصول بني فرڨان تعود إلى قرية زمورة العتيقة في برج بوعريريج، ومنها تفرقت قديما على الشرق الجزائري (جيجل، دائرة القل، قسنطينة.. وغيرهم) بسبب معارك يقال أنها تعود للتواجد العثماني في المنطقة. بقيَ بعض من بني فرڨان في زمورة ومجانة ومناطق أخرى، رغم هجرة معظمهم، وقد كان جدي من المتأخرين في مغادرة زمورة إلى العاصمة مطلع القرن العشرين وسكن في قصبة الجزائر (بولوغين)، أين ما زالت عائلة أخيه (أحفاده) تسكنها إلى اليوم. تناسب جدي في زمورة مع عائلة المقراني التي نزحت من بجاية وسكت المنطقة، حيث تزوج بجدتي التي تعتبر بنت حفيد الشيخ محمد المقراني ورحلا معا وسكنا في القصبة، كذلك ما زالت عائلة جدتي في مجانة وفي زمورة أيضا.
 ( رحمهما الله)



_
▪️تفاصيل المراسلة:

رقم 470. — تقرير إلى الإمبراطور (نابوليون)
باريس، 20 جويلية 1867

سيدي،
لقد تم تعيين قبيلة بني فرڨان، دائرة القل، بمرسوم بتاريخ 7 أكتوبر 1866، لتطبيق الفقرتين 1 و2 من المادة 2 من السيناتوس-كونسلت بتاريخ 22 أفريل 1863، ويشرفني أن أضع أمام أعين الإمبراطور نتيجة العمليات المنجزة على أراضيها من طرف اللجنة الإدارية بقسنطينة.

📍 بنو فرڨان، أصلهم قبيلة من زُمورة، بدائرة برج بو عريريج، وقد طُردوا في زمن قديم جداً من موطنهم بسبب الحرب، فجاؤوا واستقروا في الإقليم الذي لا يزالون يشغلونه إلى اليوم، بالقرب من واد الزهور، على بعد حوالي 50 كيلومترًا غرب القل. يحدهم شمالًا البحر، شرقًا أولاد عطية، جنوبًا مشاط والجبالة، وغربًا بني بو العيد.

وقد تم تحديد مساحة أراضي القبيلة بـ 4,912 هكتارًا و60 سنتيارًا.
يبلغ عدد سكان القبيلة 1,581 نسمة، يملكون 333 كوخًا أو خيمة، 400 حصانًا أو بغلاً، 10 حمير، 1,029 رأس بقر، 1,182 رأس غنم، 9,188 رأس ماعز، 100 خلية نحل. عدد المحاريث المزروعة 135؛ والضريبة المفروضة 8,241 فرنك و07 سنتيم، منها 1,257 فرنك و11 سنتيم إضافي.
المنطقة تقع جزئيًا في السهل وجزئيًا في الجبل، وتتميز بخصوبتها. وتُعد تربية المواشي، الزراعة، وصناعة الزيت من الصناعات الأساسية للقبيلة.
يملك بنو فرڨان الأرض ملكية حرة (ملكية "ملك")، وتمتد الملكيات الخاصة على مساحة 3,131 هكتارًا و94 آرًا و55 سنتيارًا، وهي تشكل مجموعة تتركز في وسط القبيلة؛ أما الأراضي التابعة لأملاك الدولة والأراضي العمومية والأملاك الجماعية فتقع في الأطراف. هذه الشروط المختلفة تبرر تأسيس دوار واحد يحمل اسم بني فرڨان.

القبيلة لا تملك أراضي جماعية للزراعة.

تشمل الأملاك الجماعية ثلاث أراضٍ للرعي مخصصة لهذا الاستخدام منذ زمن بعيد (224 هـ، 31 آر، 05 س) إضافة إلى 23 مسجدًا أو مقبرة (0 هـ، 75 آر).
تشمل الأملاك العمومية 775 هـ، 46 آر، 70 س، منها 51 هـ، 89 آر، 80 س تخص الطرق والأنهار والعيون، و723 هـ، 56 آر، 90 س وهي عبارة عن كثبان رملية تشكلت من ترسبات البحر.
المطالب المتعلقة بالأملاك العامة وعددها أربع لم تواجه أي معارضة من "الجماعة" ولا أي مطالبة خاصة مضادة.
الأولى تتعلق بقطعة أرض تدعى بُو-بازيل، مساحتها 1 هـ، 74 آر، كانت منذ زمن طويل مخصصة لمبيت الجنود، على طريق فيليبفيل (سكيكدة) إلى جيجل، وقد بقيت ملكًا للدولة بدون نزاع.

الثلاثة الأخرى تتعلق بثلاث مجموعات غابية:
المجموعة رقم 17، مساحتها 89 هـ، 52 آر، 50 س، تم منحها؛
المجموعتان رقم 18 و19، مساحتهما 451 هـ، 04 آر، 80 س، تم منحهما؛
المجموعة رقم 20، مساحتها 237 هـ، 81 آر، لم تُمنح.
يمارس بنو فرڨان حقوق الرعي والاستخدام في هذه المجموعات الثلاث، والتي لم يكن من الممكن استردادها عن طريق التبادل، ويجب الإبقاء على الوضع الحالي إلى حين تنظيم مسألة الحقوق الغابية.
خلاصة القول، لم تُسجّل أي صعوبات أو حوادث ملحوظة أثناء تطبيق السيناتوس-كونسلت على بني فرڨان؛ حيث تم تطبيق تعليمات المراسيم والنصوص بانتظام، ولا يسعني إلا أن أطلب من جلالة الإمبراطور التكرم بالمصادقة على المقترحات التي تُلخّص هذه العمليات، بالتوقيع على مشروعي المرسومين المرفقين.
وبما أن الملكية لدى بني فرڨان هي ملكية حرة (ملكية "ملك")، فإن السيناتوس-كونسلت قد نُفّذ بالكامل في هذه القبيلة، وستبقى المعاملات العقارية فيها حرة دون منازع.

أنا. المارشال الفرنسي،
الوزير كاتب الدولة في وزارة الحرب،
الموقّع: نييل.

مصادق عليه:
الموقّع: نابوليون.






#عمادالدين_زناف #الجزائر #استرجع_تراثك

الثلاثاء، 3 يونيو 2025

الفينيقيون.. حصان الطروادة الثقافي




الفينيقيّون.. حصان الطروادة الثقافي
مقال عماد الدين زناف.

بعد قراءة هذا المقال، سيتمكن القارئ من فكّ الارتباط بين النسب على أساس العِرق والنسب على أساس العائلة الثقافية المشتركة.

إن أصل الفينيقيين، هؤلاء الحاميّون الذين انصهروا في أرض سام.. هو موضوع جدلي معقّد بالنسبة للعلماء، فكيف هو بالنسبة للشعوب التي تبحث عن الحقائق الواضحة في قضايا التاريخ، دون مراعاة أنها قضايا تتعلق بزمنٍ غابر. وبين فضول العلماء، وحماسة الشعوب، يأتي المؤدلجون ليستغلّوا الثغرات المعرفية والفراغات التي يتركها لهم العلماء، ليركبوا على ما هو غير مفهوم، ويجعلوه حصان طروادة لتمرير كل مشاريعهم الحزبية والقومية والسياسية.
دعوني أولًا أسلّط الضوء على الجانب الذي لا يعني المتحمّسين للنتائج السريعة، إذ هو يجمع بين علم الآثار والنصوص القديمة والأنساب التوراتية والمطالبات الهوياتية المُلحّة.
يُعرف الفينيقيون تاريخيًا بأنهم سكان مدن الساحل الكنعاني (في مدن صور، صيدا، وجبيل، في لبنان الحالي) وذلك منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، ويُعترف بهم – من طرف علماء اللسانيات والآثار – عمومًا كشعب يتحدث لغة سامية من الفرع الشمالي الغربي، وهو مرتبط بالكنعانيين.
إن هذه النسبة – لـ سام، وإن كانت لسانية فقط – تُثير نقاشًا حادًا عند مؤدلجي شمال إفريقيا، خاصة عندنا في الجزائر، خصوصًا فيما يتعلق بالادعاء القائل بأن الفينيقيين "الساميين ثقافيًا" قد تكون لهم صلة قرابة بالعرب، وذلك عن طريق الجد الواحد "سام بن نوح"، ما يجعلهم يتصوّرون أن الفينيقيين والعرب شيء واحد، بل قالوا إنهم عرب بشكل صريح، وإن كل آثارهم في شمال إفريقيا إنما هي آثار العرب القدماء، دون التوغّل في نتائج هذا الكلام غير العلمي، إذ إن هدف هذا المقال هو تصحيح المفاهيم، لا الخوض في الجدال العقيم.
بحسب التقليد التوراتي (في سفر التكوين 10: 6–19)، فإن كنعان هو ابن حام، وكنعان هذا نزل أرض الشام، وسكنها، وصارت تُسمّى أرض كنعان، وتشعّب منها خلقٌ (الذين أصبحوا شعبًا خليطًا بين الساميين والحاميين، ما يخلط كل شيء في ذهن الباحث).
سكنَ بلاد الشام شعب من كنعان قبل ظهور بني إسرائيل، وأسسوا القدس "أورشاليم"، وهم اليبوسيون، شعب من كنعان بن حام، وذلك قبل نزول الخليل إبراهيم عليه السلام من أُورك إلى بلادهم بحواليّ ألفي سنة، حيث نجد في العهد الجديد رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين 7: 1 "لأَنَّ مَلْكِي صَادَقَ هذَا، مَلِكَ سَالِيمَ، كَاهِنَ اللهِ الْعَلِيِّ، الَّذِي اسْتَقْبَلَ إِبْرَاهِيمَ رَاجِعًا مِنْ كَسْرَةِ الْمُلُوكِ وَبَارَكَهُ" و"ملكي صادق" ليس اسم شخص ولكنه اسمُ رتبة راهب عالي المقام باللغة الكنعانية، ما يشير ويُبيّن تأثرهم واندماجهم مع اللسان السامي.
وكما نعلم، تُميز التوراة بوضوح بين نسل حام (كنعان، كوش، مصرايم، وفوط) ونسل سام ومنهم عابر (هود عليه السلام)، الذي يُعد سلف العبرانيين والعرب. وبهذا التقسيم أخذ كل المؤرخين المسلمين.
إن هذا التمييز في النَسَب يخلق إشكالًا في عقل القارئ والباحث، عندما يُنسب الفينيقيون إلى صيدون وحِثّا بن كنعان الحامي النسب، وفي الوقت نفسه يُوصفون بأنهم "ساميون"، لأن لغتهم الموروثة عن الكنعانيين أجدادهم (صيدون، وحِثًّا، واليبوسي، والأموري، والجرجاشي، والحِوِّي، والعرقي، والسيني، والأروادي، والصماري، والحماتي) هي من لسان ساميّ، في حين أن إطلاق مصطلح "السامية" يشير تلقائيًا إلى "نسل" سام.
لكن الحقيقة التي يقفز عليها المؤدلجون، هي أن مصطلح "السامية" هو مصطلح حديث جدًا، ظهر في القرن الثامن عشر عند (Schlözer, 1781)، وهو يعتمد على تصنيف لغوي وليس على نسب ديني أو عرقي، إذ إن العلماء لا يعتمدون إطلاقًا على النصوص الدينية وما ذكرته من أنساب عرقية، بل يصنّفون الشعوب حسب موروثهم اللساني.
وهذه القضية كذلك تُبقي الفضوليين والباحثين على عطشهم، لأن الجميع يعلم أن اللغة وحدها لا تُحدد عرق المتحدّث، فالجزائري المولود في الصين، سيتحدّث الصينية بطلاقة، وربما سيموت وهو لا ينطق كلمة واحدة أمازيغية ولا عربية، ومع ذلك فهو ابن شمال إفريقيا بالدم والعرق، صينيّ الثقافة واللغة والمسكن، وكذلك المؤلفات والمقالات المتروكة من بعده.
فإهمال أصول هذا الجزائري أصلاً، بحجّة أنه صيني اللسان والثقافة، لا يتفق عليه أحد، خاصة المسلمين الذين يولون اهتمامًا بالانتساب للأب، لأسباب عرفية وكذلك لأحكام دينية.
علم الآثار، كما توضحه أعمال E. Lipiński في كتابه The Aramaeans: Their Ancient History, Culture, Religion (Peeters, 2000) و Markoe في كتابه Phoenicians (University of California Press, 2000)، يثبت أن الفينيقيين كنعانيون "ثقافيًا" أي الكنعانيون المنصهرون تمامًا مع الثقافة السامية، بدليل آلهتهم (بعل، عشتروت)، ولغتهم، ونظام كتابتهم، وتنظيمهم الاجتماعي والحضري، كلّها امتداد مباشر لمدن كنعان في العصر البرونزي، وذلك دون أي انقطاع عرقي.
أما لغتهم، فهي من الفرع السامي الشمالي الغربي، وهي قريبة من العبرية والآرامية بحكم التأثر المباشر بينهم، ما يبرر من منظور لغوي فقط وصفهم بـ "الساميين"، رغم أن التوراة تُخرجهم من نسل سام وتنسبهم إلى حام.
أما الدراسات الجينية الحديثة فقد زادت من غموض هذه العلاقة، حيث أظهرت دراسة الحمض النووي القديم بقيادة Zalloua 
وآخرين (2008, The Phoenician's DNA and the Spread of the Alphabet, American Journal of Human Genetics)، والتي أُجريت على مواقع فينيقية في تونس ولبنان وإسبانيا، وجود استمرارية في بعض السلالات الجينية القادمة من المشرق القديم (خاصة J2) لدى سكان هذه المناطق اليوم.
كذلك جاءت دراسة حديثة أكثر دقة، ارتكزت في تونس، تلخصت في كون معظم نتائج الأحماض النووية التي كانت تُظن أنها مشرقية، هي شمال إفريقية بحتة.. ليعود الحديث عن جدّيّة حاميّة الفينيقيين وأفرقتهم.
وهذا لا ينفي وجود أثر تاريخي لفينيقيين من صنف مشرقي، لكنه لا يعني بأي حال وجود علاقة عرقية مع العرب (J1) الساميين، أو لغوية مباشرة معهم، الذين جاؤوا في القرن السابع الميلادي إلى شمال إفريقيا. فالتعريب كان ظاهرة لاحقة ترتبط بسياق الفتوحات الإسلامية ونزوح العرب بشكل تدريجي بعد ذلك بقرورن (القرن 12م بالنسبة لبني هلال وبني سليم) وليس نتيجة قرابة سلالية سامية قديمة كما يدّعيه المؤدلجون.
إن الجدل في شمال إفريقيا ينبع جزئيًا من قراءات أيديولوجية حديثة؛ إذ تسعى بعض التيارات القومية البعثية إلى تبرير الحضور العربي في المنطقة من خلال ربطه بعناصر "أصلية" أو "قديمة" مثل الفينيقيين، كما ذكرت في المقدمة، ظانّين أو موهِمين أن لغتهم السامية من صميم عرقهم كذلك. ما ننفيه بالمطلق كما ينفيه كل العلماء الذين يؤكدون أن الفينيقيين كنعانيون حاميو العرق، وليسوا عربًا من أبناء هود، ولا ساميين أصلًا من أي ابن من أبناء سام.
وبالتالي فهم غرباء عن عرب الحجاز والشام واليمن. وهذا الانقسام له جذور أيضًا في القراءات التاريخية التقليدية مثل قراءة ابن خلدون في كتاب العبر، والعشرات من المؤرخين من قبله، الذين يميزون بوضوح بين العرب البائدة (وهم ساميون) والعاربة (أحفاد قحطان بن هود عليه السلام، الذي يعود إلى أرفكشاد بن سام على قول، وقول آخر ينسبه لسام لكن ليس لهود)، والمستعربة (أحفاد إسماعيل بن إبراهيم، الذي يعود إلى هود عليه السلام، الذي يعود أيضًا إلى أرفكشاد بن سام)، والكنعانيين (صِيدُون، وَحِثًّا، وَالْيَبُوسِيَّ، وَالْأَمُورِيَّ... كما ذكر العهد الجديد)، وأحفاد مازيغ، البربر عند المؤرخين المسلمين، وكذا ما قالوه عن أبناء يافث كذلك من الصقالبة ويأجوج ومأجوج ويونان وكتيم وترشيش وغيرهم.
وبعد، فإنه تاريخيًا لم يُصنَّف الفينيقيون يومًا كعرب إلا عندما جاء البعثيون كردة فعل لشيوع موضة الأدلجة على أساس عرقي، كالنازية التي تمجّد العرق الآري الأبيض، والفاشية التي تتغنّى على نفس الوتر، ثم الشيوعية، فجاء العرب الذين كان أغلبهم نصارى، ليدندنوا نفس الدندنة، ومنهم ميشيل عفلق و صلاح الدين البيطار و زكي الأرسوزي و أكرم الحوراني و منيف الرزاز و أحمد حسن البكر.. واتفق كل هؤلاء على صناعة مجد للعرق العربي بجعله قومية تعجاوز مجد الاسلام وتتجاوز مفهوم الموروث الديني، فاستقى كل منهم شيئًا من الحضارات القديمة، وخرجت القرعة بـ"الفينيقية" بالنسبة للبعثيين. حتى إن العرب لم تتكلم يومًا في أشعارها الجاهلية والإسلامية أنها من حضارة كنعان (الشخص، لا الأرض التي تَسمّت كذلك.. والتي سكنها خليط عرقي)، أو صيدون والفينيقيين، ولا حتى الذين ثبت وجودهم في القرآن كسبأ.
وعن الفينيقيين هؤلاء، فإن هيرودوت في التواريخ، الكتاب السابع، يذكر أنهم قدموا من البحر الإريتري (والذي قد يُقصد به البحر الأحمر)، ثم استقروا في المشرق، فهو لا يتفق مع أحد منا في كنعانيتهم ولا ساميّتهم، ولم يخلط مؤرخو الرومان مثل سترابون وبلينيوس الأكبر بين الفينيقيين والعرب إطلاقًا، لأن في تلك الفترة، كانت تُسمّى العرب "الساراسين" أساسًا، فاسم "عرب" جاء متأخرًا جدًا، إذ كان الساراسين "العرب" بدوًا يرحلون في كل جزيرة العرب، بينما كان الفينيقيون تجّارًا بحارة مستقرين تمامًا، ولا لقاء بينهما.

وباختصار، الفينيقيون ليسوا ساميين وليسوا عربا، هم من بني حام، لكنهم ساميو الثقافة بحكم المسكن والتفاعل الحضاري.

فإن القول بأن الفينيقيين "ساميون" ثقافيًا، لا يعني أبدًا أنهم أقرباء للعرب، فهي مغالطة ناتجة عن خلط بين تصنيف لغوي حديث وبين نسب عرقي دموي مختلف بينهما..
هذا الخلط (غير البريء) يُغذي اليوم خطابات هوياتية تفريقية تمزيقية، منحازة معرفيًا، تهدف إلى التشويش على الشعوب المستقرة باستعمال التاريخ بشكل خبيث.. لخدمة أهداف سياسية أو ثقافية ترمي إلى تعميق الفجوات وإبعاد الأنظار عما هو أهم.

#عمادالدين_زناف #الجزائر

الاثنين، 2 يونيو 2025

الأمازيغ والفينيقيون كنعانيون من حام


▪️س: يا عماد الدين، من أين أتيت بأن كنعان هو ابن #حام؟ تعني أن الأمازيغ والفينيقيين (أبناء صيدون بن كنعان بن حام) ليسا من سام؟ ▪️ج: نعم.

 علمتني الحياة أن لا أذكر كل المصادر حتى يطلبها المشكّكون، لمَ؟ لأنهم يُلزمون أنفسهم بأنفسهم في كون المصدر هو الفيصل وليس شيء آخر..فلا يتبقّى لهم سوى الإقرار أو الفرار.

قائمة أعلام المؤرخين والكتب:

🔸الطبري - تاريخ الرسل والملوك
▪️المسعودي -مروج الذهب 
🔸ابن كثير - البداية والنهاية
▪️ابن حزم - الفصل في الملل
▪️ابن الجوزي - المنتظم
🔸ابن الأثير - الكامل في التاريخ 
▪️وهب بن منبه - التيجان في ملوك حمير
🔸ابن خلدون - العبر وديوان المبتدأ والخبر
▪️أبي الفداء - المختصر في تاريخ البشر
🔸العهد القديم

لاحقا سأنشر مقالة أبين فيها سبب الخلط بين نسب الكنعانيين والفينيقيين #الثقافي للساميين (نفس العائلة اللسانية) مع نسبهم #الأبوي لكنعان بن حام في الآن ذاته، وكيف تم استغلال هذا من البعثيين لأسباب 
ايديولوجية لخداع أمة (لا تقرأ) بأكملها.













#عمادالدين_زناف #الجزائر