التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الفينيقيون.. حصان الطروادة الثقافي




الفينيقيّون.. حصان الطروادة الثقافي
مقال عماد الدين زناف.

بعد قراءة هذا المقال، سيتمكن القارئ من فكّ الارتباط بين النسب على أساس العِرق والنسب على أساس العائلة الثقافية المشتركة.

إن أصل الفينيقيين، هؤلاء الحاميّون الذين انصهروا في أرض سام.. هو موضوع جدلي معقّد بالنسبة للعلماء، فكيف هو بالنسبة للشعوب التي تبحث عن الحقائق الواضحة في قضايا التاريخ، دون مراعاة أنها قضايا تتعلق بزمنٍ غابر. وبين فضول العلماء، وحماسة الشعوب، يأتي المؤدلجون ليستغلّوا الثغرات المعرفية والفراغات التي يتركها لهم العلماء، ليركبوا على ما هو غير مفهوم، ويجعلوه حصان طروادة لتمرير كل مشاريعهم الحزبية والقومية والسياسية.
دعوني أولًا أسلّط الضوء على الجانب الذي لا يعني المتحمّسين للنتائج السريعة، إذ هو يجمع بين علم الآثار والنصوص القديمة والأنساب التوراتية والمطالبات الهوياتية المُلحّة.
يُعرف الفينيقيون تاريخيًا بأنهم سكان مدن الساحل الكنعاني (في مدن صور، صيدا، وجبيل، في لبنان الحالي) وذلك منذ الألفية الثانية قبل الميلاد، ويُعترف بهم – من طرف علماء اللسانيات والآثار – عمومًا كشعب يتحدث لغة سامية من الفرع الشمالي الغربي، وهو مرتبط بالكنعانيين.
إن هذه النسبة – لـ سام، وإن كانت لسانية فقط – تُثير نقاشًا حادًا عند مؤدلجي شمال إفريقيا، خاصة عندنا في الجزائر، خصوصًا فيما يتعلق بالادعاء القائل بأن الفينيقيين "الساميين ثقافيًا" قد تكون لهم صلة قرابة بالعرب، وذلك عن طريق الجد الواحد "سام بن نوح"، ما يجعلهم يتصوّرون أن الفينيقيين والعرب شيء واحد، بل قالوا إنهم عرب بشكل صريح، وإن كل آثارهم في شمال إفريقيا إنما هي آثار العرب القدماء، دون التوغّل في نتائج هذا الكلام غير العلمي، إذ إن هدف هذا المقال هو تصحيح المفاهيم، لا الخوض في الجدال العقيم.
بحسب التقليد التوراتي (في سفر التكوين 10: 6–19)، فإن كنعان هو ابن حام، وكنعان هذا نزل أرض الشام، وسكنها، وصارت تُسمّى أرض كنعان، وتشعّب منها خلقٌ (الذين أصبحوا شعبًا خليطًا بين الساميين والحاميين، ما يخلط كل شيء في ذهن الباحث).
سكنَ بلاد الشام شعب من كنعان قبل ظهور بني إسرائيل، وأسسوا القدس "أورشاليم"، وهم اليبوسيون، شعب من كنعان بن حام، وذلك قبل نزول الخليل إبراهيم عليه السلام من أُورك إلى بلادهم بحواليّ ألفي سنة، حيث نجد في العهد الجديد رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين 7: 1 "لأَنَّ مَلْكِي صَادَقَ هذَا، مَلِكَ سَالِيمَ، كَاهِنَ اللهِ الْعَلِيِّ، الَّذِي اسْتَقْبَلَ إِبْرَاهِيمَ رَاجِعًا مِنْ كَسْرَةِ الْمُلُوكِ وَبَارَكَهُ" و"ملكي صادق" ليس اسم شخص ولكنه اسمُ رتبة راهب عالي المقام باللغة الكنعانية، ما يشير ويُبيّن تأثرهم واندماجهم مع اللسان السامي.
وكما نعلم، تُميز التوراة بوضوح بين نسل حام (كنعان، كوش، مصرايم، وفوط) ونسل سام ومنهم عابر (هود عليه السلام)، الذي يُعد سلف العبرانيين والعرب. وبهذا التقسيم أخذ كل المؤرخين المسلمين.
إن هذا التمييز في النَسَب يخلق إشكالًا في عقل القارئ والباحث، عندما يُنسب الفينيقيون إلى صيدون وحِثّا بن كنعان الحامي النسب، وفي الوقت نفسه يُوصفون بأنهم "ساميون"، لأن لغتهم الموروثة عن الكنعانيين أجدادهم (صيدون، وحِثًّا، واليبوسي، والأموري، والجرجاشي، والحِوِّي، والعرقي، والسيني، والأروادي، والصماري، والحماتي) هي من لسان ساميّ، في حين أن إطلاق مصطلح "السامية" يشير تلقائيًا إلى "نسل" سام.
لكن الحقيقة التي يقفز عليها المؤدلجون، هي أن مصطلح "السامية" هو مصطلح حديث جدًا، ظهر في القرن الثامن عشر عند (Schlözer, 1781)، وهو يعتمد على تصنيف لغوي وليس على نسب ديني أو عرقي، إذ إن العلماء لا يعتمدون إطلاقًا على النصوص الدينية وما ذكرته من أنساب عرقية، بل يصنّفون الشعوب حسب موروثهم اللساني.
وهذه القضية كذلك تُبقي الفضوليين والباحثين على عطشهم، لأن الجميع يعلم أن اللغة وحدها لا تُحدد عرق المتحدّث، فالجزائري المولود في الصين، سيتحدّث الصينية بطلاقة، وربما سيموت وهو لا ينطق كلمة واحدة أمازيغية ولا عربية، ومع ذلك فهو ابن شمال إفريقيا بالدم والعرق، صينيّ الثقافة واللغة والمسكن، وكذلك المؤلفات والمقالات المتروكة من بعده.
فإهمال أصول هذا الجزائري أصلاً، بحجّة أنه صيني اللسان والثقافة، لا يتفق عليه أحد، خاصة المسلمين الذين يولون اهتمامًا بالانتساب للأب، لأسباب عرفية وكذلك لأحكام دينية.
علم الآثار، كما توضحه أعمال E. Lipiński في كتابه The Aramaeans: Their Ancient History, Culture, Religion (Peeters, 2000) و Markoe في كتابه Phoenicians (University of California Press, 2000)، يثبت أن الفينيقيين كنعانيون "ثقافيًا" أي الكنعانيون المنصهرون تمامًا مع الثقافة السامية، بدليل آلهتهم (بعل، عشتروت)، ولغتهم، ونظام كتابتهم، وتنظيمهم الاجتماعي والحضري، كلّها امتداد مباشر لمدن كنعان في العصر البرونزي، وذلك دون أي انقطاع عرقي.
أما لغتهم، فهي من الفرع السامي الشمالي الغربي، وهي قريبة من العبرية والآرامية بحكم التأثر المباشر بينهم، ما يبرر من منظور لغوي فقط وصفهم بـ "الساميين"، رغم أن التوراة تُخرجهم من نسل سام وتنسبهم إلى حام.
أما الدراسات الجينية الحديثة فقد زادت من غموض هذه العلاقة، حيث أظهرت دراسة الحمض النووي القديم بقيادة Zalloua 
وآخرين (2008, The Phoenician's DNA and the Spread of the Alphabet, American Journal of Human Genetics)، والتي أُجريت على مواقع فينيقية في تونس ولبنان وإسبانيا، وجود استمرارية في بعض السلالات الجينية القادمة من المشرق القديم (خاصة J2) لدى سكان هذه المناطق اليوم.
كذلك جاءت دراسة حديثة أكثر دقة، ارتكزت في تونس، تلخصت في كون معظم نتائج الأحماض النووية التي كانت تُظن أنها مشرقية، هي شمال إفريقية بحتة.. ليعود الحديث عن جدّيّة حاميّة الفينيقيين وأفرقتهم.
وهذا لا ينفي وجود أثر تاريخي لفينيقيين من صنف مشرقي، لكنه لا يعني بأي حال وجود علاقة عرقية مع العرب (J1) الساميين، أو لغوية مباشرة معهم، الذين جاؤوا في القرن السابع الميلادي إلى شمال إفريقيا. فالتعريب كان ظاهرة لاحقة ترتبط بسياق الفتوحات الإسلامية ونزوح العرب بشكل تدريجي بعد ذلك بقرورن (القرن 12م بالنسبة لبني هلال وبني سليم) وليس نتيجة قرابة سلالية سامية قديمة كما يدّعيه المؤدلجون.
إن الجدل في شمال إفريقيا ينبع جزئيًا من قراءات أيديولوجية حديثة؛ إذ تسعى بعض التيارات القومية البعثية إلى تبرير الحضور العربي في المنطقة من خلال ربطه بعناصر "أصلية" أو "قديمة" مثل الفينيقيين، كما ذكرت في المقدمة، ظانّين أو موهِمين أن لغتهم السامية من صميم عرقهم كذلك. ما ننفيه بالمطلق كما ينفيه كل العلماء الذين يؤكدون أن الفينيقيين كنعانيون حاميو العرق، وليسوا عربًا من أبناء هود، ولا ساميين أصلًا من أي ابن من أبناء سام.
وبالتالي فهم غرباء عن عرب الحجاز والشام واليمن. وهذا الانقسام له جذور أيضًا في القراءات التاريخية التقليدية مثل قراءة ابن خلدون في كتاب العبر، والعشرات من المؤرخين من قبله، الذين يميزون بوضوح بين العرب البائدة (وهم ساميون) والعاربة (أحفاد قحطان بن هود عليه السلام، الذي يعود إلى أرفكشاد بن سام على قول، وقول آخر ينسبه لسام لكن ليس لهود)، والمستعربة (أحفاد إسماعيل بن إبراهيم، الذي يعود إلى هود عليه السلام، الذي يعود أيضًا إلى أرفكشاد بن سام)، والكنعانيين (صِيدُون، وَحِثًّا، وَالْيَبُوسِيَّ، وَالْأَمُورِيَّ... كما ذكر العهد الجديد)، وأحفاد مازيغ، البربر عند المؤرخين المسلمين، وكذا ما قالوه عن أبناء يافث كذلك من الصقالبة ويأجوج ومأجوج ويونان وكتيم وترشيش وغيرهم.
وبعد، فإنه تاريخيًا لم يُصنَّف الفينيقيون يومًا كعرب إلا عندما جاء البعثيون كردة فعل لشيوع موضة الأدلجة على أساس عرقي، كالنازية التي تمجّد العرق الآري الأبيض، والفاشية التي تتغنّى على نفس الوتر، ثم الشيوعية، فجاء العرب الذين كان أغلبهم نصارى، ليدندنوا نفس الدندنة، ومنهم ميشيل عفلق و صلاح الدين البيطار و زكي الأرسوزي و أكرم الحوراني و منيف الرزاز و أحمد حسن البكر.. واتفق كل هؤلاء على صناعة مجد للعرق العربي بجعله قومية تعجاوز مجد الاسلام وتتجاوز مفهوم الموروث الديني، فاستقى كل منهم شيئًا من الحضارات القديمة، وخرجت القرعة بـ"الفينيقية" بالنسبة للبعثيين. حتى إن العرب لم تتكلم يومًا في أشعارها الجاهلية والإسلامية أنها من حضارة كنعان (الشخص، لا الأرض التي تَسمّت كذلك.. والتي سكنها خليط عرقي)، أو صيدون والفينيقيين، ولا حتى الذين ثبت وجودهم في القرآن كسبأ.
وعن الفينيقيين هؤلاء، فإن هيرودوت في التواريخ، الكتاب السابع، يذكر أنهم قدموا من البحر الإريتري (والذي قد يُقصد به البحر الأحمر)، ثم استقروا في المشرق، فهو لا يتفق مع أحد منا في كنعانيتهم ولا ساميّتهم، ولم يخلط مؤرخو الرومان مثل سترابون وبلينيوس الأكبر بين الفينيقيين والعرب إطلاقًا، لأن في تلك الفترة، كانت تُسمّى العرب "الساراسين" أساسًا، فاسم "عرب" جاء متأخرًا جدًا، إذ كان الساراسين "العرب" بدوًا يرحلون في كل جزيرة العرب، بينما كان الفينيقيون تجّارًا بحارة مستقرين تمامًا، ولا لقاء بينهما.

وباختصار، الفينيقيون ليسوا ساميين وليسوا عربا، هم من بني حام، لكنهم ساميو الثقافة بحكم المسكن والتفاعل الحضاري.

فإن القول بأن الفينيقيين "ساميون" ثقافيًا، لا يعني أبدًا أنهم أقرباء للعرب، فهي مغالطة ناتجة عن خلط بين تصنيف لغوي حديث وبين نسب عرقي دموي مختلف بينهما..
هذا الخلط (غير البريء) يُغذي اليوم خطابات هوياتية تفريقية تمزيقية، منحازة معرفيًا، تهدف إلى التشويش على الشعوب المستقرة باستعمال التاريخ بشكل خبيث.. لخدمة أهداف سياسية أو ثقافية ترمي إلى تعميق الفجوات وإبعاد الأنظار عما هو أهم.

#عمادالدين_زناف #الجزائر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...