ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته.
مقال عماد الدين زناف.
ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.
الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، فالأيادي الصانعة للشخصيات لم تتوقف يومًا عن الاختباء وراء شخصيّات مزيفة، أو شخصيّة لها شيء من المصداقية لتمرر بها أساطيرها.
والحقيقة أنني لم أعتمد على نفسي لمعرفة كم التدليس واللا منطق في رواياته، لأنني لست أملك من القدرة على التحقق بشكل محسوس في كل نقطة تطرّقَ إليها، وبالتالي فإنني قد اعتمدت على عديد الشخصيات المجتهدة، التي بدورها جمعت المراجع اللازمة في هذا الموضوع، بهذا سأحوم حول ما قيل من الباحثين المختصين في التنقيب وما وراء ذلك. ومن بينهم الباحث ¹ stephen janicek الذي نفى بالكامل رحلة ابن بطوطة إلى بلغاريا، مثلا. وجامعات متخصصة مثل جامعة ² WARWICK والتي ربطته بأكاذيب زيارته للقسنطنطينية والصين وكذلك مالي "على الرغم من أنها تعتبر أقرب نقطة له"، كذلك لم يسلم ماركو بولو من نفس التهم.
وإذا عُدنا بالزمن قليلا، فسوف نجد أن ما كتبه ابن خلدون، معاصره، وما كتبه هو، يرجّح كفّة ابن خلدون في المصداقية التاريخية، لأن ابن خلدون يعدّ رحّالة أيضًا، وأكثر من ذلك، فقد كان قاضيا ووزيرا عندَ عديد الملوك، من الأندلس إلى مصر، وما سمعه ابن خلدون وما خَبَره، يُجاوز ما قد يعلمه ابن بطوطة الذي لم يتقلّد مناصب سامية، ولم يلتق بشخصيات وزوار ذوي شأن من مختلف مناطق العالم مثله. والقارىء لمقدمة ابن خلدون، يعلم تماما أنه قد قرأ ودرس ما قيل من المؤرخين الذين سبقوه، وردّ أكثر ما سردوه بضربة واحدة واعتبره كذبا وتزويرا ، وقد ذكر بعضهم بالاسم، كالمسعودي وابن الكلبي.. قائلا " وهذه الأخبار كلّها بعيدة عن الصّحّة عريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة."³ فأسلوب ابن خلدون منطقي وعلمي، عكس ابن بطوطة الذي يعتمد الخرافات، فهو شبيه بما كتبه المسعودي عن "مغامرات ملوك اليمن" في مورج الذهب. ولم يسلم ابن بطوطة من ملاحظات المؤرخين المعاصرين كابن الخطيب قائلا "لديه مشاركة يسيرة في الطلب"⁴ مقللا من شأن ما يعلمه.
بعدَ هذه التوطئة السريعة، سنقتحم تفاصيل رحلاته، الأماكن التي ادعى زيارتها، التدرج الزمني الخاطىء، وصفه لمخلوقات أسطورية، مع أخبار كاذبةً تماما.. وكذا دلائل قويّة على أنه نسخ كثيرا من نعوت الأماكن من مؤرخين آخرين.
1- التناقضات الزمنية :
ينقل لنا أنه كان ينتقل من مكان إلى آخر كثيرا.. المشكلة في ذلك التنقل هو في مدته الزمنية السريعة جدا، مثلا، انتقل من الحجاز إلى الشام إلى الأناضول إلى جنوب روسيا قبل أن يزور القسطنطينية وكذا آسيا الوسطي.. في سنة واحدة! من 1332 إلى 1333. بينما يؤكد العلماء أنه وبظروف ذلك الزمن وحتى بأحسن الوسائل، وجب أن يحدث ذلك في 3 سنوات كأقل مدة زمنية. وحتى لو حدث ذلك وحطّ في آسيا الوسطى سنة 1335، فلن يكون ذلك ممكنا، لمَ؟ لأنه ذكر بأنه التقَ بالسلطان تارماشيرين المغولي، لكنه في الحقيقة توفى سنة 1334م. سيُقال، ربما أخطأ في التاريخ، ورحل سنة 1330، لكنه قال أنه بقيَ في مكة من سنة 1327 إلى 1330. كذلك حول رحلته إلى بلغاريا، يقول أنه قام بالذهاب والعودة بين أوزبكستان وبلغاريا في شهر رمضان، لأنه يقول بأن المسافة بينهما تقاس بعشرة أيام مشيًا على الأقدام.. لكن الحقيقة أن بينهما 1500 كم، وهذا لا يستقيم، لأنك إذا مشيت 25 كم في اليوم فسوف يستغرق منك شهرا كاملا. كذلك في الأناضول، فقد انطلق من الغرب ليصل الى أقصى الشرق بمدينة أرضروم قبل أن يعود للمكان الذي انطلق منه.. وكل هذا في ثلاثة أشهر، والمسافة بينهما 2000 كم، الشيء الذي يتطلب 100 يوم و10 أيام إضافية.
نفس الشيء عندَ كتابته حول الهند، الصين، والمالديف.
في الصين مثلا، أكّدَ أنه زار عديد المدن في مدة بين 4 و 5 أشهر، الأمر الذي عدّه المؤرخون مستحيلا لأن المدن الصينية في تلك الفترة كانت بعيدة كثيرة عن بعضها البعض، مثل مدن قوانغتشو، تشوانتشو، بويانغ، نانتشانغ، هانغتشو إلى غاية خان باليق (بيكين).. علاوة أنه أكد عودته منها إلى مدينة تشوانتشو.
2- وصفه لما شاهده.
المغالطات التي جاء بها هنا تعد فاضحة، لأنه يصف مدينة ما بشكل مخالف تماما عن مدينة قريبة منها، وبعضها كاذب تماما لا يمت بصلة إلى وصفها الحقيقي.
عبر "رحلاته"، يصف ابن بطوطة بالتفصيل كل ما يراه، العمارات الناس التظيم الاجتماعي والاقتصادي، وكذا يومياته هناك.. لكن في بعض المناطق، ينقطع وصفه بطريقة غريبة، ولا يتكلم باسهاب مثل مناطق أخرى، مثلا، في افريقيا الشرقية، كان من المفترض أن يزور ثلاثة مدن، مقاديشو، مومباسا وكيلوا، لكن كان ذلك دون أي وصف دقيق. والغريب أنه لا يتكلم تماما عن رحلاته البحرية، بالرغم من أنها تشكل جزءًا كبيرا من هذا الترحال، بل إن بعض الرحلات البحرية تدوم أشهرا. أما وصفه للمدن، فهو يفتقد للدقة أو مغالط تماما، بالنسبة له، منازل مدينة كيلوا مصنوعة بالحطب وتعتليها نفايات.. لكن حسب الأركيولوجيين، فإن المنازل كانت تبني باستخدام المُرجان. كذلك لا يسرد أي معلومة على ازدهار هذه المدينة، التي كانت مسرح إعجاب، كما تبينها لوحة رسمت سنة 1572. أما بالنسبة لمومباسا، فقد وصفها أنها مدينة كبيرة وعظيمة، لكن الحقيقة أنها كانت مدينة ساحلية صغيرة. لاحقا، وفي أندونيسيا، ادعى أنه التقَ بملكها الملك الزهير، بيدَ أن الملك هذا توفى سنة 1326، أي 20 سنة كاملة قبل قدومه لأندونيسا. لكن المثال الأكثر غرابة هو الصين، لأنه بلد عظيم في تلك الفترة مليء بالثقافات والمثقين، وكان شهيرا حتى لمن لم يرحل إليه، وقد دخلها المسلمون وكان لهم مجتمعهم المسلم منذ قرون، مع ذلك، ابن بطوطة قصّ بطريقة شحيحة عن ما شاهده هناك، بل قد وصف الصينيين وصفا ساذجا مثل، "الصينيون يهتمون بالحِرَف التقليدية والرسم، طرقهم محصنة، ويومياتهم مخالفة للاسلام". ويبدو جليا أنه اختلق وصفا في ذلك المكان، فمن المستحيل الانتقال من زيتون (تشوانتشو) الى قوانغتشو من الوادي الأصفر، لكنه قال أنه فعل ذلك، كذلك بالنسبة لرحلته من زيتون إلى بيكين، فقد ذلك أنه اتخذ طريق الواد، والواد غير موجود بينهما (إضافة إلى أن المسافة كبيرة جدا).. ولانقاذ ما يمكن إنقاذه لابن بطوطة، رجّح المؤرخان (François-Xavier fauvelle و Bertrand Hirsh) ⁵ أنه قد يكون خطأ المؤخين⁶ في تحديد المدن بدقة، هذا كل ما يمكن قوله.. بيدَ أنني أراه تحليلا متحيّزًا لا يستند إلى الوثائق التي معهم... خاصة عندما نعلم أنه أكّد حضوره لجنازة الإمبراطور في بيكين سنة 1346، بيدَ أن توغون تَيمور توفى سن 1368.. أي 22 سنة بعد التاريخ الذي ذكره.. حظ موفق لمن يريد تبييض صحيفته !
لنتكلم عن رحلته إلى مالي ثم عن الذين أخذ منهم وأخيرًا وصفه للكائنات الغريبة، للنهي بعد هذ المقال الذي اخترت أن يكون موجزًا، لأن الحديث عن كل تناقضاته سيأخذ وقتا يماثل وقت كتابته لهذه الروايات. الرحلة المزعومة إلى مالي حدثت ما بين 1352 و 1353، وقد كانت مالي وقتها مملكة محترمة وثرية جدا، ذلك من إرث مانسا موسى الشهير الذي حكم سنوات 1312 الى 1337.. وفي آخر المطاف، يأتي ابن بطوطة ليروي لنا أشياءَ شحيحة جدا عنها، فقد أسهب في وصف مدينة ديلي مثلا، لكنه لم يقم بذلك ليصف أهم مدينة وهي العاصمة نياني.. وراح يسرد نفس الشيء الذي سرده عن الصين، بالرغم من أن مالي كانت مملكة مسلمة، اختزل وصف شعبها أن عاداتهم وثنية.. علاوة أنه بقيَ هناك 8 أشهر.. من أجل وصف شحيح وغير دقيق كهذا.
3- المصادر التي أخذ منها.
كثير من صفحاتات "الرحلة" مأخذوة بالنسخ التام عن مؤخرين آخرين، أخذ عن ابن جزي الكلبي الغرناطي (1321-1351) الذي أخذ عن الرحالة ابن جبير (1145-1217) الذي رحل من الشرق الى الغرب ما بين 1183 الى 1185. مثلا، كل وصف دمشق منسوخ تماما من ابن جُبير، كذلك مدن أخرى في الشام، والكوفة بالعراق.. حتى وصفه لمكة معظمه منسوخ من ابن جبير. بالنسبة لمالي، فقد نسخ الوصف من الرحالة العُمَري في كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (1301-1349)، أما وصفه لمدن إفريقيا، فقد نسخ من البكري (1014-1094) الذي يعد من أشهر مؤرخي زمانه، وكذا القزويني (1203- 1283). أما عن الصين، فسوف نجد نَسْخا من كتاب أخبار الصين والهند الذي يعود للقرن التاسع.
4- المخلوقات العجيبة.
يقول ابن بطوطة أنه وخلال رحلته عايش أعاجيب وخوارق، مثلا، يروي أن في عُمان، يصنع الناس بيوتهم بهياكل السمك، في الهند، يقول أنه شاهد يوغيًّا يطير في السماء، في الصين، يقول أنه التق بشخص عمره 200 سنة لا يأكل ولا يشرب شيئا.. ويقول أن دِيَكَة الصين ضخمة بحجم النعامة.. وبعودتهه منها، صادف في الماء عصفورا عجيبا كبيرا يعتقد البحارة أنه جبل. أما في بارانهغار في برمانيا 'ميانمار'، يصف سكانها أنهم إنس برؤوس الكلاب.. وعشرات الخوارق والعجائب الأخرى التي يرويها كحقائق.
سأتوقف هنا، بالرغم من أن هناك الكثير من الأشياء التي يمكن التعرض لها ونقضها بل وتدميرها كليا، لكن لكي نترك المقال قابلا للقراءة، فضلت اختزاله إلى هذا الحد.. فليكن لكلّ منا عقلا نقديًا لا تروعه الأسماء ولا ما قيل عنها.
________
المراجع:
¹ https://www.semanticscholar.org/paper/Ibn-Ba%E1%B9%AD%E1%B9%AD%C5%AB%3B%E1%B9%ADa%27s-Journey-to-Bulgh%C3%A0r%3A-Is-it-a-Janicsek/792fdab3c61837edcd7ce5155816f6b99f946124
²
https://warwick.ac.uk/fac/arts/history/students/modules/hi3k2/outlinesyllabus/week4/
³ المقدمة، الجزء 1 الصفحة 17
⁴ «الإحاطة» مخطوطة المكتبة الأحمدية بفاس، وعن هذا المصدر: ابن حجر في «الدر الكامنة»: الطبعة الأولى ج 3 ص 480.
⁵
https://shs.cairn.info/revue-afrique-et-histoire-2003-1-page-75?lang=fr
⁶
Voyage aux frontières du monde
Topologie, narration et jeux de miroir dans la Rihla de Ibn Battûta
• Par François-Xavier Fauvelle et Bertrand Hirsch Pages 75 à 122
#عمادالدين_زناف