التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الفيزياء والفلسفة في الأدب



الفلسفة والفيزياء في فنجان الأدب.

قبل أن يصبح علما مُستقلاً قائما بذاته، كان علمُ الفيزياء مندرجا ضمن آليات الفلسفة، على بساطته في فلسفة مآ قبل سقراط، عند فيتاغورتس وطاليس وكزينوفانيس، ثم انتقاله الى وجه آخر، مع الفلسفة الآرسطية، ما يسمى أيضاً بالفيزياء الآرسطية، التي كانت تشمل كُل العلوم الطبيعية، وعلى بدائيّة بعض التصوّرات التي فيها، الا أنها كانت ممهّدة  لاستقلال الكثير من المفاهيم والمصطلحات، والطريق العام نحو قيام العلوم التجريبية بعدها شيئا فشيئا.
 أخذ آرسطو من أفلاطون تقسيمه الشهير للعناصر، ما يسمى العناصر الأربعة الأرضية (نار، ماء، أرض، هواء)، حيق بُنيت على إثر هذا التقسيم العديد من الأطروحات المنطقية والتجريبية، بما كان يتوفّر آنذاك.
 دَرس آرسطو المعادن، ودرس التغيرات المادية، أي التداخلات بين الماء والبخار، وتفاعل النار مع الجماد، والماء مع النار، وانعكس هذا بطريقة مُباشرة على قراءته العامّة للطبيعة، في التفاعلات المادية الحيويّة أوّلاً، ثم على الإنسان والمجتمع، وكل ما يتعلّق بهذا الحقل ثانياً.
 فأصبح يُعرف بالمُعلّم الأوّل، لأنه أوّل من ربط "بتصوّره" التفاعلات الكونية، أي التداخل بين الكائنات الحيّة والطبيعة (المادة) والفلك، للخروج بأفكـار مـَنطقيّة. 
ما هو المنطق؟ هو عمليّة الاستدلال بما هو صحيح الذي يعارض الفطرة والسياق الطبيعي (لذلك هو مَرِن). وما الصّحيح؟ هو الشيء القابل للتجريب لأكثر من مرّة، ويعطي نفس النتيجة (وهذا لا يعني أنه لا يُخترق). ما التجربة؟ هي عمليّة تشتمل على أفعال حسّية تُرى أو تُسمع (أو معنويّة، في الرّوحانيات). 
تأسّس علم الفيزياء بطريقة تدريجيّة، فقد بدأ بالتأمّل، ثم التجارب، ثم تسمية الأشياء وتأصيل المعادلات، ووضع القواعد، وصولا الى فيزياء الكمّ و(نظرية كلّ شيء). كلّ هذه المنهجيّة اعتمدت على المنطق الذي فكّكته آنفاً باختصار شديد. 
فاذا علمنا أن علم الفيزياء من أصحّ وأدقّ العلوم، بحيث يعتمد على المنطق والعقل والحسّ، أي التجربة والحساب وتحديد الوحدات لكل المتفاعلات، بالنانومتر ونيوتن واللتر وسريان الهواء وباسكال وغيرهم، 
فان العمليّة العكسية في الطّرح تُصبح الزاميّة، اذ على المُتكلّم باسم المنطق والكلام، أي بالفلسفة بشكلها العام، أن يَكون مُحيطاً بالقواعد العامّة للفيزياء! لـماذا؟ 
لأن الانسان مُلازم للطبيعة، وهو جزءٌ منها، على انّه أعقل الكائنات، (وهي مسخرة له بمنظورنا الإسلامي الصحيح)، أي هو جزءٌ من التفاعلات الفيزيائية في هذا الكون، فالفيلسوف، ينطلق من قاعدته الطبيعية، جزءٌ منها يتوفّر عليه كل البشر، وتسمى الفطرة، خاصّة في التفاعلات المعنويّة والشعوريّة، والجزء الآخر خـاضع للتجربة، والتجربة هي العلم الصحيح، كما بيّنت. 
وكمثال، إذا شرع الفيلسوف في بسط فكرة مُعيّنة، لنقل أنّها نظريّة اجتماعيّة، وكان مُنطلق هذه النظريّة ان الانسان يمشي فوق الماء، وبنى على هذه الفكرة كل نظريّته، حتّى لو كان ما تلا بعد هذه الصورة الابتدائية، منطقيا ومعقولاً، مثل القول بأن هذا الانسان سيأكل ويشرب ويضحك وهو يترجّل فوق الماء،
فان الضّحك والأكل والشّرب هي معقولاتٌ تجريبية صحيحة، لكن في غير مكانها، تماما مثل الأكل والشرب والضحك في الحلم، فهي عمليّات طبيعية معقولة، وبما أن الانسان يفعلها وهو يطير في الهواء، بلا أجنحة، محاطاً بالوحوش، فهي إذا معقولات في غير موضعها، إذا منطقياً كلّ الفكرة خائطة، ولو كان أكثر من ثلاثة أرباعها صحيحاً. كذلك يمكننا أن نوسّع الأمثلة بقول ان من قال واحد زائد واحد يساوي ثلاثة، أي يُقال "إن شخصاً مع صديقه قد غادرا، وكـان ثلاثتُهم سعداء." أو أن يُقيم أحدهم فكرته على أن الزاوية القائمة درتها واحد وتسعون، وليس تسعون، ثم يتوسّع من هذه الفكرة، فحتى لو كتب ألف صفحة، وكل ورقة تحمل معلومات صحيحة، فان اكل لكتاب يلقى في القمامة، لأنه خالف المنطق.
فعلى المؤلّف بشكل عام، أن يدرس المعقولات والعلوم التجريبية، ويُقيم على إثرها فكرته الاجتماعية، لأن الانسان كما ذكرت، جزء من كل هذه الهندسة والرياضيات والتفاعلات الفيزيائية، ومن خلالها يُنتج فكرا معنويا وأخلاقيا، ومن هذا الإنتاج الفكري، يصنع حضارته المادّية، وبين هذا وذاك، سيكون مؤلّفا أديبا من الطّراز الأوّل، لأنه لن يترك وراءه ثغرة تعيبه فكريا.

المقال 218.
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...