التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من الاستهلاك إلى الهلاك ، جون بودريار

الاستهلاك في المجتمع الحديث، جون بودريار

عنوان (مُجتمع الاستهلاك) قد يبدو متشابهًا مع عناوين كثتب كل من جيد يبور وميشال كلوسكارد، وقد يكون كذلك متشابها مع المواضيع التي تناولها بورديو. على أيّة حال، هي فترة لامعة –من الستينيات إلى غاية أواخر القرن الماضي- قدّمها الفكر الفرنسي في علم الإجتماع، فقد عرفت كوكبة من الفلاسفة الذين تناولوا مواضيع حساسة في ظرف أكثر حساسية، إذ عرف العالم تحوّلا كبيرًا شبيهًا بالثورة الصناعة البريطانية، حيث كانت الفترة الانتقالية الكُبرى إلى المفاهيم الجديدة في الإشهار والتسويق والتجارة والتعاملات، تحت لواء اقتصاد جديد وسياسة جديدة وأساليب جديدة ومتقدمة (التلفاز ثمّ الإنترنت). 
تميّز جون بودريار عن غيره بإنشائه لمصطلحات ذات ثقل، وقد عاشَ ما يكفي ليفكّك تلك المعاني في كُتب رائعة، ذات لغة مليئة بالتشفير. كثنتُ قد تناتُ عددًا منها في مقالات سابقة ودرسٍ في قناتي، غيرَ أن الرحلة مع جون بودريار لم تنتهي ولن تنتهيَ قريبًا، وموضوع اليوم هو نظرته حول الاستهلاك، أسبابه وظروفه، ثم غاياته.
أصبحَ الاستهلاك خُلقَ عالِمنا، لقد أصبح يدمّر ثوابتَ الإنسان، أي التوازن الذي كانت تمشي عليه الحضارات منذ الإغريق، منذ بواعث الميثلوجيا وفلسفة اللغة. في الماضي، كان المجتمع بين اتباع الإله والشيطان، بهذا كانوا يُقيمون التوازن، أما اليوم، فالتوازن محصور بين الاستهلاك والتنديد.  
الشيء (المادة) كشرطٍ أساسيّ للسعادة.
معجزة الاستهلاك تضع كل المواد المُصطنعَة، أي الإشارات الرمزية للسعادة، ثم تنتظر فاقدةً الأمل بأن تأتي السعادة لتحطّ فوقها.  بهذه النظرة الجديدة، وضعنا السعادة في قوالب ومواد ورمزيات مثجسّمة وملموسة. بيت جيد، سيارة جيدة، صالون كبير مع تلفاز ضخم، كل الوسائل متوفرة لنكونَ سُعداء. لقد أصبحنا نُعرّف بالأشياء، وعين الرّضى تكون بعدد الأشياء التي استطعنا الحيازة عليها، تزيد السعادة بزيادتها وتنقص بنقصانها، أي أننا مسكونين ومُلبّسين بتلك الأشياء عِوض أن نسوقها كوسيلة لا غاية، في نهاية المطاف، الإنسان هنا أصبحَ عبدًا للأشياء التي تحوم حوله. في عملة الاستهلاك، ما يقوم به ذلك الشيء (المادة) يُعدّ أمرًا ثانويًّا، أهم ما يجب أن يتوفّر عليه ذلك الشيء هو الأبّهة الاجتماعية (البريستيج)، مثل سوق العطور، الذي كان يعتمد في السابق على نوعية العطر لا صورة العطر، وهذا ما كانَ سببا رئيسيا في عدم رواج سوق العطور، غير ان العملية تحولت من الجودة والنوعية إلى الصورة اللا واعية التي يترتّب عليها شراء العطر. في يومنا هذا تُباع صورة البهرجة التي يصنعها العطر في إثارة الآخر، وليس ما إذا كان العطر يعجبنا حقًا، بالنسبة للرجل العطر أصبح يمثل القوة والنساء، وبالنسبة للنساء الحب والإغراء، رائحة العطر تبقى ثانويّة جدًا. 
المُستهلك يعيش حريته في اختياراته الشرائية حصرًا، لا يعي المستهلك أن تغيير الحرية في تغيير المنتج لا غيّر من تقيّده بالاستهلاك، أي أن المستهلك حرّ كالعصفور داخل القفص، يأكل مما يريد، لكن وهو في داخل ذلك البيت الحديدي، فإذا كان ميلك للباس الروك، الكلاسيكي، أو الرياضي، فهذا لا يغيّر من حقيقة استهلاكك للألبسة الخاضعة للموضة، أيًّ كان اختيارك، ومهما اعتقدت انك مختلف ومتفرّد عن محيطك، فإن هذا يدخل ضمن عملية الشراء، أي أن تستهلك دائما وأبدًا.
في زمن الاستهلاك، الأشياء التي كانت بالمجان مثل الماء والهواء والطبيعة الخضراء والمنازل الخشبيّة، أقل ما يمكن أن يتوفّر للإنسان، أصبح عيشةً لأهل الرفاهية، إذ أن جودة هذه الأشياء أصبحت محل تجارة أيضًا، بعد أن أصبح العالم خاضع للصنعة السريعة، هذه الأخيرة التي تنتج أشياء هشة الجودة، لأن ما هو عالي الجودة لا يستنسخ منه الكثير. 
هذا المُرفّه، سيشتري بثروته نقاء الهواء والماء الصافي، سيشتري بيتا في الريف بعيدًا عن ازدحام المدن وروائح الغازات المنبعثة من السيارات والمصانع، وسيصبح ذا بريستيج عالٍ وسط زملاءه عندما يريهم صوره وهو في الأماكن البعيدة وسط الحيوانات وفي أعالي الجبال وعلى ضفاف الأنهار، سيريهم رحلته التي كلّفته ثمنا باهظًا ليكون عديل الإنسان الأول. 
 الاستهلاك يُنتج اللا عدل.
الأشياء، المادة، المناصب وكل ما هو ملموس أصبح يُمثّل ويعرّف الانسان، فما الذي بقيَ للذي لا يملك أيًّ من هته الأمور المُكلّفة؟ سيصبح شخصا لا قيمة له، بالرغم من أن الإنسان هو نفسه من صنع تلك الأشياء، لكنه سريعا ما فرضها على نفسه، ثم أصبحت تتملّكه، ثم صارت هي من تعرّفه وليس ذاته.   يدفع الاستهلاك المجتمع إلى الفردانية، إلى التنافسيّة السطحيّة، وكلما تعرّلإ الناس على بعضهم البعض بما يكسبون لا بما يفقهون، كلما تضاعف الاستهلاك وأغلقت الدائرة مجددا. 
الاستهلاك يدفعك لتجربة كل شيء، من أجل البحث عن أحاسيس جديدة.  سيدفعك إلى أشياء معقوله مثل البذخ في الاحتفال مع صديق في عيد ميلاده، إلى أن تجرب الطيران من أعلى فندق وأنت في لاس فيغاس، وأنت في حالة سكر تام.
لقد دفعنا الاستهلاك إلى "ضرورة" السعادة، هذه الضرورة تستلزم ضرورات أخر، مثل ضرورة كسب المزيد من المال بأي طريقة، ضرورة اقتناء بعد الأشياء التي لا تحتاجها، ضرورة تجربة ما لم تجرّبهن ضرورة الشعور بأشياء مختلفة بشكل مستمر بأي أسلوب. 
مجتمع الاستهلاك يدفعنا لرمي ما يمكن تصليحه وترميمه، واقتناء غيره في الأسواق، لأن معرفة أن البديل جاهز يزيد من نسبة الخمول وإعادة بعث ما كان.  توفّر كل شيء علّمنا التبذير.  في الأخير، التفكير في الخروج من الاستهلاك محض يوتوبيا خيالية مستحيلة، كل شيء مبني على الاستهلاك، ولكن هناك منفذ وحيد للمضي قُدمًا بأحسن حال، وهو معرفة المجتمع، الوعي وإدراك الغايات،  وبالتالي سيقودنا هذا إلى جملة مفيدة وخلاصة سعيدة، 
استهلك بذكاء، مثل اقتناء الكتب بسخاء.  

المقال 361
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...