الجمعة، 19 مايو 2023

الفلسفة تشرح انتكاسة الجار -بودريار-



الواقع الفائق وسلطة المحاكاة، وكيف  يشرحان انتكاسة الجيران.
كيف تفسّر الفلسفة هذا الانحدار. 

🔹عن جون بودريار الفيلسوف.
يُعتبر جان بودريار من الفلاسفة الفرنسيين ما بعد حداثيين الأكثر إثارة للجدل بمواضيعه الجدلية، بالرغم من أنه الأقل تداولا بين قراء الفكر والفلسفة الحاليين، ذلك أنه عرف عزوفا ونفورًا سريعا من طرف الإعلام الفرنسي، عكس أقرانه في الزمن والموجة الفرنسية (دولوز، فوكو، دريدا، لاكون..). عرّف بودريار سريعا نفسه كفيلسوف معادٍ لعصره ولما سيؤول إليه الزمن. فقد قدّم مؤلفاته ومحاضراته كلها في اتجاه مُجمله هو معاداة الجانب المُظلم للرقمنة والتلفاز والموجة الليبرالية العنيفة سياسيا وإعلاميا وتكنولوجياً بشكل خاص، ولم يُعرف بودريار في عالم الفلسفة إلا بعد أن تُرجم إلى الإنجليزية، ورغم توجيهه السهام نحو الولايات المتحدة وسياسيتها، وبانتشار صوته هناك، يَظهر لنا انفتاح الأمريكيين على النقد، فهم داء العصر والدواء له، وهم أصل حركة العصر معرفيا،  بشقّيها وقُطبيها.  بدأ الكاتب مسيرته بكتاب استهلاك الرموز، ثم تلاه بكتاب مجتمع الاستهلاك، ثم كتاب نقد سياسة اقتصاد الرموز، ثم التبادل الرمزي للموت، وصولا إلى الكتاب الأكثر شهرة الاصطناع والمصطنع (1981) إلى كتب مثل الإغراء وأمريكا وذكريات مرحة والعشرات غيرها. المُلاحظ من المواضيع والعناوين التي طرحتها هو التسلسل الفلسفي والفكري والتناسق "الأنيق" بينها، إذ أننا نجد تشابكا وتلاحقا بينها، وأن كل كتاب يشد أزر الكتاب الذي سبقه، وأن المواضيع الأساسية هي نفسها بالرغم من تغير المعطيات عبر الأزمان، إذ أن أول كتاب ظهر في 1968، وآخرهم كتابين في 2008 بعد وفاته بسنة 2007.  
🔹عن فكره.
تكلمَ بودريار على المجتمع والسياسة والاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا بطريقة غير مسبوقة، فهو أو من تحدّث عن موت الواقع وانصهاره مع الافتراض، معبرًا عن ذلك باندماج أو موت الواقع المعاش مع الرمزيات التي تُقدم في التلفزيون، رمزيات في الإشهار لأشياء تصنع فينا الرغبة في اقتنائها، والأفلام التي جعلت الرومنسية مُعبر عنها عن طريق لباس وعطور وأزهار وأساليب كلامية محددة، ما جعل المجتمعات موحدة في طريقة تفكير واحدة، أي نقل واقع كل الشعوب إلى عالم فوق واقعي (hyperréel). تحدث عن الدين وكيف أصبح (وكان) يُعبّر عنه بالتجسيم والتجسيد (الرمزية) إذ كل شيء خاضع للإسقاط الشكلي لكي نستطيع أن "نراه"، وهذا ما يعد خطرًا في كثير من الأحيان، الواقع الفائق هو واقع مُنتقل في عالم آخر، وكمثال آخر عن الدين، طرح بودريار مثال العطر غير الحقيقي للأشياء، مثل رائحة نعناع مُصنّعة، أو عصير بذوق البرتقال المصنع، أو مُلوّن غذائي يضاف إلى عصير مركز مُصنّع بسكر غير طبيعي (aspartame)، وهذا ما ينقلنا من موضوع الرمزية والواقع الفائق، إلى موضوع  الاصطناع، التمويه، والمحاكاة، أي من افتراض واقع جديد، إلى محاولة تقليد الواقع في عالم آخر مثل الألعاب، إلى انتقال كامل إلى ذلك الواقع الافتراضي (مواقع التواصل، وصولا إلى النظارات الذكية  الواقع الافتراضي. من هذه الثغرة جاء فيلم ماتريكس، متأثرا بفكر بورديار في تحول العالم إلى حرب رقمية لا يمكن التخلص منها، كنوع من الحرب بين المحاكاة والحقيقة. إلا أن –وكما أشرت سابقا- لم يعبر بودريار عن رضاه بفكرة الفيلم، وقال أنها أقرب إلى فكرة كهف أفلاطون منها إلى فكرته. لأنه يقول بأن ماتريكس فصل بين العالم الملموس والعالم الافتراضي، إلا أن الواقع حقيقة هو اختلاط الواقع بالافتراض والخيال، فالصعوبة تكمن هنا، في التفريق بين الحقيقة والخيال، ما يجعلنا نقوم ونؤمن بالحماقات.  الحماقات التي تقودنا إلى العدمية، الموضوع الذي إذا ما ذكرناه ذكرنا نيتشه الذي تخصص في إعادة تعريفه، لأن بالتعريف المتداول، يعد نيتشه عدميا، لكن إذا ما أخذنا نظرة نيتشه أن العدمية هي قلب القيم الإنسانية، فالجميع عدمي بالنسبة لنيتشه ما دام يفرض فكرًا جديدا على صيرورة الطبيعة الأولى الأصلية.  وعندما تحدث عن المصطنع (simulacres)   ربطه بالعلم، وقسمه إلى مصطنع طبيعي، إنتاجي، ومصطنع الاصطناع. الأول قال أنه على علاقة مع الطبيعة، أي أنه قائم على تقليدها أو تزويرها. الثاني يقوم على الطاقة والآلة وإنتاجياتهما. الثالث، وهو الثالث أنه قائم على الإعلام واللعبة السيبرانية.  الجزء الأول هو مقاربة للمخيال الطوباوي (utopia) وهو الخيال الذي يرمي للمثالية المستحيلة. الثاني مقاربة للعلم التخيلي، وهو العلم الفعلي (التطبيقي). يقول إن السريالية (الفوق واقعية) والدادائية (حركة معادية للحرب) والعدمية السياسية هي عبارة عن ظواهر تشارك في ما يسميه تدمير نظام المعنى،.  
🔸اسقاطات واقعية لفكره.
وفي إسقاط على الحاضر السياسي والجيوسياسي، نجد أن بعض الشعوب لم تستصغ النتيجة التاريخيّة التي أفرغت على ضيقٍ في الجغرافيا والتاريخ والثقافة، وانتهت محصورةً على أطراف الأرض. ذلك ما أدى إلى ضيق في الخواطر والنفسيات، الشيء الذي لزّها إلى تهوّرات عديدة فوق واقعيّة، كالتزوير، وتوسّل المغالطات المنطقية والسفسطات، استعمال النصوص والمصطلحات التاريخية في غير محلّها، التلاعب بالمعاني التأثيلية والحداثية حسب ما تقتضيه مصلحتهم الضيّقة، استعمال ما يسمى مغالطة إلتقاط الكَرَز، وذلك بتسليط الضوء على حادثة وتجاهل حوادث، استخدام فترة وتجاهل فترات، تناسي الحاضر والاعتماد على أقواس تاريخية. الواقع الفائق في هذه الحالة هو صناعة واقع لا يوجد في الواقع، هو واقع إلكترونيّ بحت، واقع يعتمد على الرسومات والمونتاج والتلوين وشراء الذمم من مدونات ومؤثرين،  واقع يتجاوز الثوابت الدينية والثقافية ويقفز إلى أعداء هاتين لصناعة وهم مشكّل من قطع متناثرة. تُستعمل الفوق واقعية في التلفاز والمرئيات، حيث ينتهج هؤلاء سياسة التكرار حتى يُعتقد أن ما يُكرّر صحيح ولا يمكن أن يكونَ كذبًا، وسيصبح المكرر ثقافة شعبيّة تتجاوز سلطتها النصوص التاريخية والعلوم والأبحاث التي تعاكسها. ولقد حدثَ معي أن كلّمتُ أحدهم بوثيقة رسميّة من بلده، تنصّ بالحرف على أن بشار وبني ونيف ضمن التراب الجزائري، فردّ قائلا أنه "لا يؤمن بالمستندات بل بما يقوله كبار السّن". الحقيقة هنا انتقلت إلى واقع فائق، فاق الواقع الملموس، وأصبح يطفو فوق رؤوس الناس كالغمام.  أما المُحاكاة الجيوسياسية والثقافية، فقد صارت عادة كلّ مُنهزم. لنتذكّر معًا أن المحاكاة في الأساس هي محاولة تقليد الطبيعة بطريقة فنية، في الرسم في الموسيقى في ألعاب الفيديو والأفلام وغيرها، لكن عندما يكون من المحاكاة من الواقع الفائق وليس من الواقع الحقيقي، فهنا سنبتعد عن الحقيقة مرتين، والنزول إليها من هؤلاء يتطلب بدل الجهد الواحدِ جُهدين. فعندما تنسب حلوى تسمى بالعنابية إلى مدينة في المغرب الأٌقصى الأقصى، وتنسب أغنية دزاير يا عاصمة إلى عاصمة المغرب الأقصى وتنسب ما هو نويمدي وزيري وعثماني إلى ما لم يكن في المغرب الأقصى ثم كانَ، فهنا أنت تبني واقع فائق في السحاب ومن السحاب تحاكي ذلك الواقع الموهوم، فتصبح عائما في الفضاء وقد تدّعي شيئا لم تكن  يومًا في القمر!
🔸خطورة الواقع الفائق والمحاكاة الزائفة.
  الواقع الفائق والمحاكاة الزائفة تستحيل إلى رمزيات ميّتة، حتى تجرّ الرمزية إلى الموت كما يقول بودريار، لأنها لا ترتكز على أسس صلبة. فالعقل الجمعي قد يتقبلها ويعيش ببهرجتها لفترة معينة، لكنها لم تبنى على راحة نفسية، بل بُنيت على ردة فعل غاضبة وحاقدة، على استياء عميق من الآخر، والفروق بين الذي يعتقد أن ما له حق، وبين الذي يريد أن يعتقد أن ما له حق ليُغيض الآخر هي فروق شاسعة. أنظر في حال من يَسرِق وحال من يُسرَق، السارق هو أوّل تتعالى أصواته أن ما هو في يده ملكه، حتى لو لم يسأله أحد عنه، فهو يمشي وكرّر طوال الوقت 'هذا ملكي، هذا لأجدادي' لأنه ليس ملكه ولم يكن لأجداده. المنطلق التبريري هو منطلق مُغضب، والمغضب لا يرتاح بفوزه أبدًا، بل يرتاح بخسارة الآخر فقط، هو لا يريد أن يكون قويّا، بل يريد أن يرى القويَّ ضعيفًا، هو لا يريد أن يتوحّد مع القوي، بل يريد أن يكون سيّدَ ذلكَ القويّ. في نهاية المطاف، المنطلقات الوطنية والثقافية القائمة على ردود الفعل، وليس الفعل من ذاته، هي منطلقات تعيسة فكريا وفلسفيا، وسوف تفضي إلى أحقاد داخلية واجتماعية يومًا.  عندما يعي بلد ما أنه متوحّد على كراهية الآخر، عندما تزحزح تلك الكراهية ليوم واحد ستفيض فيما بينهم، لأن تلك المحبة، والسكوت عن الظلم والعبودية والاستعمار والتطبيع والذل والهوان، كانت ولا تزال مغلّفة ومتجاهلة في إطار بغض الآخر وافراغ الطاقة في سرقته وتلفيق التهم والكذب عليه، أي في صبّ كل ذلك الاستياء في الآخر، وبالتالي،  ركل الكرة طوال الوقت خارج إطار المرمى، وعندما يصل هذا الاستياء إلى منتهاه، لأن لكل شيء مُنتهى،  سوف ينقر هذا الغراب نفسه حتى يدميها، وسوف تنفجر كل العاهات وتصب في في قناة واحدة، بُحيرة المَحْزَن.. ولا يَسَعُنا إلا أن نقول، ردّكم الله إلينا ردّا جميلًا قبل أن تودوا بأنفسكم إلى الهلاك. 

المقال 357
#عمادالدين_زناف   #استرجع_تراثك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق