التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الانصهار في الذوق العام



الانصهار في الذوق العام.. لحياة آمنة؟

من الألبسة والأجهزة، إلى الأكلات، إلى الكُتب.. مروراً بالآراء الرياضية، السياسية، الاجتماعية والفكرية، ينصهر الفرد العادي في ذوق المُحيط، مٌعتقداً أنه يُحسن صنعاً بمواكبة الزمن، ظاناً أن البقاء في الطليعة يتلخّص في تقليد المُحيط. بيد أن تقليد الناس بعضهم بعضاً له أبعاد نفسية وإجتماعية أخرى، غير تلك التي يظنونها.
تقليد الآخرين في الحقيقة هو رسالة مُشفّرة فحواها ”إنني منكم، أنظروا كيف أشبهُكم، لا تقصوني من مجموعتكم، اقصائي من الجماعة عديل الموت بالنسبة لي!“.  وفي الحقيقة، ألم الاقصاء من الجماعة نفسياً، يشبه أي ألمٍ جسدي، هو سكّين يُغرس في مزاج المُقصى.  الانصهار في ذوق العوام حاجة بيولوجية ونفسية مُلحّة لا يشعر بها الفرد، وربما يُنكرها أشد النكران لو قيلت له، ذلك أن الإنسان يضع الرفض والإنكار كجوشن يحمي به مشاعره وكبريائه، غير أنه يشعر في قرارة نفسه بحجم الرغبة الملحة لرؤيو الرضا على وجون الناس، عن كل اختياراته.   
ترى الفردَ منا يطلبُ ما يطلبه الناس، لأن طلب غير المُعتاد لا يكون سوى لأصحاب الحجج الصلبة، فالذي يُعزّز من ذوقه ويجعله في المقدمة، سيطوّر إلزاماً مكنته الكلامية والجدلية، لأنه سيلقى صدّاً وسخريةً، أو تجاهلاً وهجراً.
يُبرز المرء المنصهر في الذوق العام كل الأمور التي من شأنها أن تضيف له نقاطاً أمام العامّة، صور لكتبٍ متداولة، موضة الألبسة، أكل خفيف مشهور، بعض الاقتباسات لأشهاص يعرفهم الجاهل قبل العالم.. وهكذا يعمل الإنسان الخائف من الموت الإجتماعيّ، الذي يعادل شعور ألم الموت الحقيقي، بجدّ وباحترافية، في تقليد الناس، بل وفي ابراز أن ما ذوقهم صوابٌ صوابْ، وأن المُخالف عدوّهم جميعاً، وتلفق له تهم كخب الشهرة، والتكبر، وبذلك يُكاولون ”قتـ.له اجتمعاياً“، وبهذا الفعل، يعزز ن حياة وأمان بعضهم البعض.
إن الأمان بالمفهوم المُعاصر، هو الإطمئنان بأن الآخر يفكر مثلنا، ويسعى لنفس ما نسعى، ويشقى كما نشقى، وأن يرانا نشبهه، أو ليس أحسن منه كأقل الإيمان.   ويعمل الفرد على أن يبرز معاناةً لا يعانيها حقاً، وذلك ليرضيَ الذين يعانون، فيخفي سعادته تارةً، ويبرز حزنا ومواساة لا أساس لها في قلبه.
 وترى أن الفقير يُجهد نفسه ليكسب نفس الهاتف ونفس الحذاء والقبعة والنظارات التي يلبسها أبناء حيه، وذلكَ ليبقى في حديثهم، ويُذكر بينهم، وتلاحظ أن الغنيّ ابن الغنيّ يسمي نفسه بالزاواليّ، ليكسب ودّ هؤلاء، ليجد من يحادث، لكيلا يقصونه، لكيلا يموت في وحدته.
إن الناس منصهرون في بعضهم البعض،وكأنهم في حوض كبيرٍ يسحبون بعضهم البعض نحو الأسفل، فمن يحاول الخروج، سيجد نفسه كحوت الزينة الذي يختلجه الفضول  ليُخرج من حوضه إلى حوض آخر، فلا يصبر على لحظة البرّ، أين ينقطع نفسه، فيعود لحوضه، ويرضى بما فيه وعليه.
ان الانصهار عمل طبيعي، طلب بيولوجي ونفسي عميق للعيش في راحة، إنها غاية ملحّة لتفادي التفرّد، فالتفرد يحتاج جهداً نفسيا وعقليا، يحتاج من الفرد أن يَقتنع ويُقنع، وكما نعلم، أغلب من في المعمورة متوسطوا الذكاء، والطموح، مستهلكون، منساقون، مرفوعٌ عنهم تكليف التفرّد، فهم ليسوا أهلا له، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
إذا كنت عامياً، وأنت تدرك ذلك، لا يجوز اك ادعاء التفرد، فليس لك ما تتفرد به سوى حماقة تريد لفت الانتباه بها، فتصغر في أعين أقرانك أكثر. أما إذا كنت غير هذا في نفسك ووجدانك، في رؤيتك ومنهجك، لي تكوينك وثقافتك فالتقليد والانصهار معرّة عليك لا تغسلها منك البحار.    

المقال 325
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...