عندَ سماعي لكل المناقشة والمساءلة والحوار الذي دارَ بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبان في الدور الثاني لرئاسيات فرنسا، عادَت إلى ذهني جملة كنتُ قد كتبتها في رواية بشر لا تنين، والتي تقول (لقد ابتلينا بحمقى يسيئون الدفاع عن الحق، وحرمنا من أذكياء يحسنون الدفاع عن الباطل). طبعا، في هذا الحوار، لا يعنينا بشكل مباشر من الذي يملك الحق من الذي يروّج للباطل، لكن بطريقة غير مباشرة نعم، ذلك أن سياسة فرنسا لها ردة فعل مباشرة على وطننا. لا يعنينا أيضا، بطريقة مباشرة، فوز ماكرون أو لوبان، ذلكَ أن أيّا كانَ الفائز، فعلينا أن نُدافع عن مصالحنا وفقط، إلى هُنا أكون قد أقفلت قضيّة العلاقة بين رئاسيات فرنسا وبين المتابعين الجزائريين والعرب. الآن، سأتطرّق لموضوع المقال الأساسي، ألا وهو فن الكلام والمحاججة والمجادلة والمِراء والإقناع بشكل خاص.
قبل التطرق إلى النقاط التي جعلت لوبان تظهر بمظهرٍ لا يليق بمترشّحة لرئاسيات الدولة، علينا ان نعلم أن عالم السياسة لا يخضع للأخلاقيات، وهذا لا يعني أنه غير أخلاقي بالمُطلق! ما أقصده أن الحوارات السياسية لا ترتكز عن الحقائق والوضوح والنزاهة، بل ترتكز على كيفية إظهار تلك الحقائق وكيفية التبليغ والمخاطبة لتلك الحقائق، والكيفية وحدها، هي التي تجعلكَ مُحقّاً، حتى لو كنتَ كاذباً ولَعوباً! السياسة ليست قرارات، بل هي أولا وقبل كل شيء إغراء المصوّتين، جعل المواطنين في وضعية المُوافقة المنطقية والعاطفية، أما القرارات، فكما يقول نيكولو ماكيافيلي "ليسَ على الأمير أن ينفّذ وعوده، بل من الأحسن ألا يقوم بتنفيذها"، لكي يُبقيَ على حكمه ويزيدَ من مَدَدِ عُمرهِ.
الجميع في فرنسا، والعالم، يعلم من هو ماكرون، يعلم أنه تسبب في عدّة كوارث داخلية، وكذا أزمات خارجية جيوسياسية، لكن دعوني أقولُ لكم أنه استطاعَ أن يظهر على أن خماسيّتهُ كانت مُحترمة جداً، بلغة الأرقام وبلاغة المنطق، لا لشيء سوى لأن منافسه لا يملك المستوى الكافي ليضعه في تناقضاته. أي منافس آخر كان ليجعل ماكرون مضطرباً في مكانهِ لا مُرتاحاً.
إليكم أهم النقاط التي جعلت ماكرون يتسيّد الحوار بالكامل، وأكثر من ذلك، نقاط جعلتني أتعلّمُ منه فن الحوار والنقاش واستعمال الفلسفة أين يجب، الأرقام والإحصاء حيثُ يجب، والعاطفة والمشاعر أين يجب.
1- استعملَ ماكرون أسلوب وضع المُحاور أمام تناقضاته، فقد أعاد استعمال مشروع منع الخمار إلى نحر لوبان، حيثُ قال إنها تدعي التفتّح على أكثر من الاتحاد الأوروبي، بينما لا تتفتح على الاختلافات في وطنها.
2- استعمل ماكرون حيلة تفادي وضعية الدفاع في كل مرّة، رغم أنه الملزم بالدفاع عن نفسه بما أنه الرئيس لآخر خمس سنوات، وراحَ يهاجم فِكر ومشروع حزب التجمع الوطني لمارين لوبان.
3- عملَ ماكرون على عرض مشروعه أكثر من محاولة الاشهار بمشروع لوبان، ذلك أنه يعلم بأنها لا تحسن التسويق لمشروعها، وأنها لا تستطيع البوح به بشكل مباشر، فاستغل ذلك الفراغ لكي يملأه بنواياه المستقبلية.
4- عمل ماكرون على لعب دور الأستاذ مع لوبان بالتصحيح المستمر لأخطائها، ولم يكن يتوانى في استعمال عبارات الحسرى بتذكيرها أنها لا تُحضّر.
5- استغل ماكرون المعلومات الهشة أو غير الصحيحة، أو التي كانت تبدو لوبان غير متأكدة منها، ليجعلها غير متحكمة بمواضيعها، وأنها بذلك غير مستعدة لفهم المواضيع الأكثر تعقيداً.
6- استعمل ماكرون ورقة الحقائق والأرقام القابلة للفهم عند المشاهد، والقابلة للبحث السريع للتأكد منها، استعمل أسلوب التمثيل بالأمور البسيطة.
7- لم يتوانى في إعطاء الحق للوبان في بعض المواضيع، وذلك لأنه يستهدفُ إلى كسب ود من ينوون التصويت لها، فهو يُدرك أنهم إذا شعروا بأنها سيئة، فبدوره لا يجب أن يكونَ عدوّا لهم، بل صديقهم الذي يستقبلهم ويعمل معهم.
8- عندما يشرع في التكلم عن مشروعه، أو يتحدث مباشرة للمشاهدين، لا يُشاهد لوبان، بل يركّز في شيء آخر، ذلك أنك عندما تريد التركيز، فلا يجب أن تشاهد أحدا في أعينه، فذلك سيفقدك بعض النقاط المهمة التي كنت تريد التركيز عليها. بينما كان لا يزيح نظره من أعينها عندما كانت تتحدث عن مشروعها، كنوع من الترهيب والتخويف والاستعداد للرد في أي لحظة.
9- كان يستجمع حركات جسمه بطريقة مرنة، إما بوضع الكف على الخد، أو مسك القلم، وهي تقنية تجعل المحاور لا يعلم حالة الخصم النفسية من خلال لغة جسده، وتتركُهُ في حالة تشويش، فإما تدفعه للمزايدة والخطأ، أو تجعلهُ مهزوزا في مواضيعه.
كانت هذه أهم النقاط الذي جعلت ماكرون يتسيّد الحوار، رغم أن سنوات حكمه لم تكن موفقة إطلاقا، إلا أنكم سترون الجميع يركزون على سوء تعامل لوبان مع طريقة ماكرون وتحكمه في الحوار من البداية إلى النهاية.
المقال 279
#عمادالدين_زناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق