التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هيمنغواي، أديب القوة



في عالم الأدب، هناك من هوَ مُنخرط في إيديولوجية سياسية وشعبية معيّنة مثل جون بول سارتر والحزب الاشتراكي، أو من هو داعم لتحرر الشعوب واستقلالها، دون التحيّز لشيء سوى الحرية مثل ألبير كامو، وهُناك من يشارك في قضايا، في بلدان أخرى، كصحفيّ ناقل للوقائع، كرحّالة ومصارع من أجل البقاء، كرجل حر، وكأديب استعادَ بريقه بعملٍ بآخر أعماله.
هيمينغواي ليسَ كغيره من الأدباء، فهو يمثّل الشخصية الميدانية التي لا تختفي وراء الصفائح والصحف، فكل ما ألّفه الأديب، كانَ نتاجاً لرحلاته وتجاربه المتعددة، وقد كان إرنست، على غرار مواطنه والروائي الشهير جاك لندن، من أواخر الروائيين في القرن الماضي، الذين كانوا يوفّقون بين التأليف الروائي والقَصصي والمقالات الصحفية، مع الترحال والعمل الميداني الناقل للحقائق، خاصة في أحداث الصراع الداخلي في إسبانيا. 
رواية الشيخ والبحر، لم تكن سوى إسقاطاً عبقرياً من الأديب عن حالته الحقيقة في سنواته الأخيرة، سنوات ابتعدَ فيها بريقه الأدبي ونَقُص كثيراً، فعادَ برواية قصيرة جداً، سهلة اللغة والتركيب، عميقة المعنى، ليحقق بها نوبل للأدب. فقد ظَهَرَ فيها على شكل الشيخ سنتياغو، الصائد الذي كَبُر وشاخ، ولم يَعُد يلقى سوى الذم والاحتقار من الأجيال الجديدة، والصائد الذي لم يعد يلقى دعما وإيماناً سوى من الفتى الذي كان يرافقه. في مُغامرة لإثبات الذات، تحدّى الشيخ سمك المارلين (خيل البحر) واستطاعَ اصطياده، ورغم التهام أسماك القرش للسمكة. فقد استطاع سانتياغو تجاوز ذاته مرّة أخرى. 
الاسقاطات الواقعية في الأدب الأمريكي بشكل خاص هي لبّ المحاور الناجحة عادةً، ذلكَ أنهم يجدون في المعاني الطبيعة السهلة والمُعبّرة، المرتبطة بالأرض والبحر والسماء، غاية نبيلة من الأديب ليقدمها لهم. فالأدب الأمريكي قد عرفَ توهّجاً بهذا الأسلوب القريب من الطبيعة، حتى تلك الروايات الفانتازية، تجدُ فيها سهولة في المعنى العام، وهدفاً واضحاً. 
اعتمدَ إرنست على الوَعي بالوعي في كتاباته، فهو لا يفرّ من الواقع، فلسفة الأديب تكمن في معالجة ما يجبُ معالجته دائما. فالوعي عندَه لا يتم إدراكه ومعرفته إلا بمواجهة الوقائع والأحداث حقيقةً لا مجازاً. 
من وصلَ منكم إلى هذا السّطر من المقال، فسيعلم أن عملي القادم سيكون فيه الكثير من الأسلوب الأمريكيّ في الأدب، وهو الأسلوب الذي سيخدُم الموضوع خدمةً نبيلة. 
المواجهة عندَ هؤلاء الأدباء، هي الباب المؤدي لمعرفة الحقائق، ومنها ننتج فلسفات خاصة تجعلنا حكماء أكثر من ذي قبل. هيمنغواي، مؤلّف يتعاطى مع الأدب كالملاكمة تماما، فهو مُصارعٌ وليسَ كاتباً بالمعنى التقليدي. 
من يكتب في الطبيعة وعن الطبيعة، لا يكون إلا مصارعاً وقويّ البنية والنفس، ذلكَ أن الطبيعة في الأدب الأمريكي مرة أخرى، ليست جميلة، بل قاسية جداً. وإنهُ من يواجه الطبيعة، مواجهة التلميذ لا المُعلم، فسوف يُدرك ما التراجيديا، سيدرك معنى انتهاء الأشياء الجيدة والقبيحة على حدّ سواء. 
في الأخير، قد يجد القارئ -المتشوق والمعتاد للأحداث الدرامية والخيالية العجائبية- نفسهُ غريباً عن هذا الأسلوب الأمريكي البراغماتي البسيط في الوصف والسّرد، فهيمنغواي يُمثّل الأديب الذي يصنع من البسيط أسطورة ميثولوجية بوسائل بسيطة مثل القوارب وسنارات الصيد، وقد يميل الإنسان، مع تقدم الخبرات والسن إلى هذه الكتب التي تذكّره بأن الحياة أولا وقبل كل شيء: صراع مع الواقع.

المقال 277
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...