التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مُعضلة العربة trolly problem


نسبية الخير والشر في مُعضلة العَرَبَة.

"أسوأ الحلول الجيدة، أحسن الحلول السيئة"، "الأحسن سوءًا، الأسوأ حُسناً"، "جيّد لأنه ليسَ الأسوأ"، "جيّدٌ لكنهُ أسوأ ما يُمكن". عبارات لا ننطقُ بها، لا نَكتُبُها، ولا نُفكّرُ فيها. نَعتَقِدُ أن الفعل الجيّد كاملُ الجودة، والفعل السيّء، متفانٍ في السوء. لا نَعلمُ طريقة ثانية لفعل الخير، ولا لفعل الشّر، فكلاهُما واضحين بالنسبةِ لنا، وما يَجعَلُهما واضحين هكذا، هو أنهم مفاهيم غريزية مَخلوقة فينا. الجريمة شرّ، اطعام مسكينٍ، خير. التبرعُ خير، السرقة شرّ. انقاذُ نفس، خير، تركُ نفسٍ تموتُ شرٌ.
لكنّني هُنا لأجعلَ حياتكم صَعبة "كالعادة". في هذا المقال سأكلّمُكم عن مُعضلة جديدة، تُشبه مُعضلة زوغسفانغ، وقريبة من معادلة سيراكوز، لكن لا تُشبه معضلة بينروز.  ركّز معي مع ما جائت به الفيلسوفة فيليبا روث فوت؛
لدينا مُستوصف في قرية ما، وصلنا مريض يُعاني من خمسة أمراض مختلفة، وان لم نُقدّم لهُ أدوية لأمراضه الخمس، سيموت. لدينا في المقابل خمس أشخاص، كل واحدٍ منهم لديه علّة من العلل الخمسة التي يُعاني منها المريض الآخر، كل علّة كافية كي تقتل صاحبها إذا لم يشرب الدواء المخصص. المُشكلة الآن، لدينا قُرص واحد لكلّ علّة من العلل الخمسة. تذكّروا معي، المريض الأوّل يُعاني من العلل الخمسة، إذا يحتاج الأقراص الخمسة معاً كي يعيش، في المقابل، كل مريض من الخمسة يحتاج لقرص واحد كي يَعيش، أو، سيموت هو الآخر، كذلك البقية. 
الآن أنت في وضع سيّء، لكنّك وبدون تردّد ستختار أن توزّع الأقراص على المرضى الخمس، وتترك المريض الذي يعاني من العلل الخمسة يموت. خِيارُك هُنا كانَ رياضياتي، انقاذ خمسة أرواح مقابل فقدان روح واحدة هو أقرب الى العدل والمنطق. يبقى وانّك قد ساهمت في موتِ أحدهم، بقرار منك، أنت من قرّر كيف يكونُ الخير في هذه الحالة. لأن الخير المُطلق هو أن يعيش ستتهم، والشر المطلق أن يموتَ ستّتهم أيضاً، أما أحسنُ الاختياراتِ سوءًا كانَ انقاذ خمسة مُقابل ترك الآخر يلاقي مصير الموت. 
قد يكونُ هناك طبيبٌ آخر، يختار حياة الشخص مُقابل الخمسة، ذلك أن المريض رضيع، والخمسة الآخرين شيوخ. 
قد يَكون هناك طبيب آخر، يختار حياة الفرد مُقابل الخمسة، ذلك أن المريض قريبهُ، والخمسة الآخرين غُرباء.  
قد يَكون هناك طبيب آخر، يختار حياة الفرد مُقابل الخمسة، فقط لأنه أتى قبلهم بخمس دقائق. 
قد يَكون هناك طبيب آخر، يختار حياة الفرد مُقابل الخمسة، بإصرار من ذلك المريض نفسه على أن يُنقذَ هؤلاء الخمس. 
هل هُناك حُكم أخلاقي ضد هذه القرارات؟ لستُ أعتقد أن من العدل أن نصدر حكما أخلاقياً، ذلك أننا عندما نقعُ في خيار مُماثل، فإننا سنحمل جزءًا من نتائجه السيّئة، بحسب قرارانا في تلك اللحظة. علاوة على ذلك، فان كل قراراتنا مُنحازة، والانحياز جزء لا يتجزّأ من الانسان، في أحكامه ومشاعره، في نظرته وتعاطيه مع الناس. سننحاز لكل ما يستعطفُ قلوبنا، أو، ما يستعطفُ ذكائنا كذلك، ما يلدغُ عقولنا، وجانبنا اللعوب. 
عندما تُنقذ نفساً مقابل الخمسة، أو الخمسة مُقابل نفس واحدة، فانّكَ لا محالة قد ساهمت في شرّ ما، وفي خير ما. وبهذا، قد ساهمتَ في جعل الخيرِ شيئاً نسبياً، والشرّ أيضاً شيئاً نسبياً.  بهذا الاختيار، جعلتَ للشّر مكاناً محدّداً في اللعبة، لأنّك لو رفضت اللعب، فانّك بذلك ستقدّم له كل شيء.  مًعضلة العربة تشبه التجربة الأولى تماما، فعندما تقدُم عربة الترامواي، وقد تعطّلت مكابحها، وهي في سرعة فائقة، وبيدك تحديد مسارها، شمالاً ويميناً. لكنّ على اليمين، نجد خمس عمّال لا يعلمون بقدوم الترامواي بسرعة البرق، وأما في الشمال، طفل يلهو في السكة. 
سنضطر في بضعة ثوان أن نختار بين خمس أرواح عاملة باسلة، وروحٍ بريئة تلهو. 
فهل حلّ المعضلة يكونُ في تقبّل الشر مقابل كثير من الخير؟ 
هل نفضّل قليلا من الخير، لأننا نحكم بأن ذلك القليل أكثر جودة ومنفعة؟ 
كيفَ سنتعامل مع القرار؟ هل حانَ وقت إعادة فتح ملف الحُكم على القرارات بالأخلاق؟ أم بمفهوم الخير المطلق، والشر المطلق، ولا شيءَ بينهما..

المقال 270

#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...