التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نيتشه والتاريخ، نظرة وتفكيك


من أجمل كتب نيتشه وأيسرهم، هو تحليل للتاريخ من أستاذ فلسفة اللغة، قراءة وتفكيك وجيز للكتاب.

 

..يبدو أن مسألة التاريخ هي عائق يُلازم الإنسان عن سائر المَخلوقات، إن الذي يفكّر في التاريخ تفكيراً صحيحاً، لا يراهُ إلا وسيلةً لما يمكنه فهمهُ من هذا الحاضر. إن الذي يُلقي على الأنام بالتاريخ دون مغزى، لا يزيدهم سوى سوءَ فهمٍ وألم.

إن ما يُثقل كاهل الإنسان هو جرّه لتوابع التاريخ، فيحدث أن يتأمل الحيوان متسائلا، لمَ لا يعبّر عن سعادته وهو لا يحمل همّ التذكر والنسيان، فيقول أنه يريد التعبيرَ لكنه ينسى أن يفعل ذلك. إن الإنسان عكس الحيوان يتظاهر بالنسيان والدهشة، إنه عكس الحيوان يفكّر طويلا في المفقود.

 إن البالغ لا يترك حتى يبلغ مراده من الطفل، أن يزعجه حتى يخرجه من النسيان، سيجعله يقول ”كان يوماً“.. وحينئذٍ، سيتركه. سيقترب الإنسان بعدها إلى ما يسمى الكفاح والألم والسأم ليفكر في حقيقة واحدة:

ماضٍ ناقصٌ لا يكتمل البتة.

إن الإنسان يتظاهر، بينما لا يمكن للحيوان أن لا يكون إلا صادقاً، في كل وقت ومكان.

إن السعادة كما عبّر عنها الكلبيّ، هي القدرة عن النسيان، القدرة عن النسيان، وليس التظاهر بالنسيان. إنها ملَكَة الإحساس اللاتاريخي طوال ديمونة السعادة.

الإنسانُ محرومٌ تماما من ملكة النسيان، فهو تلميذ حقيقي لهرقليطس بحيث لا يجرؤ على رفع إصبعه في وجه ما يحدث. إن الإنسان مجبورٌ على أن يبقى مُستيقظاً.

على الإنسان أن يعرف القوة الخلقية له، وللشعب، وللحضارة، قوة تسمح بنمو خارج الذات، وتحويل الماضي وامتلاكه، وعلاج جراحه وتضميدها.

كلما امتلكت الطبيعة الداخلية  للإنسان جذوراً قوية تمكّن من امتلاك الشيء الكثير من الماضي. الطبيعة الأكثر قوة تتجاهل حدود المعنى التاريخي الذي بمكنه أن يضرها بشكل طُفيليّ.  إنه قانون كونيّ، فكل ما هو حيّ يصبح قوياً في حدود أفق معيّن، ودون تحديد ذلك الأفق، فسيمضي سريعاً نحو انهيارهِ.

والتذكّر السليم، يكون في الغريزة القوية التي تجعلنا نحس متى يستوحب أن نستعمل وجهة نظر تاريخية، ومتى تكون غير تاريخية. إن الحيوان متجرد من التصورات التاريخية، فهو لا يتظاهر بالسعادة، ولا بالحزن، ولا بالتخمة والرياء، إن هذه الملكة، أي الإحساس بطريقة غير تاريخية هي الأكثر أهمية وأصالة، فما هو غير تاريخيّ تجده شبيهاً بأجواءٍ آمنة، يمكن فيها للحياة أن تولد.

عندما يتم الإفراط في التاريخ، يتوقف الإنسان من جديد.

إن النظرة الفوق-تاريخية überhistorish،  تُشفي كل ميل للنظر إلى التاريخ بجدية مُفرطة، ولا تجعلنا نمر عن أسئلة أساسية مثل، كيف يتوجب أن نعيش؟ ولماذا؟..

يقول الفوق تاريخيون إن التاريخ والحاضر، وجهان لعملة واحدة، مثل تطابق كل اللغات مع الحاجات الثابتة والنمطية، لكن، فلنترك لهم هذا، ولنستمتع بافتقادنا للحكمة، ولنتمتع بيومنا كرجال للفعل والتقدم.. كمغرمين بالتطور!

 

#عمادالدين_زناف

المقال 241

#نيتشه

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...