الجمعة، 8 أكتوبر 2021

المطوّل عن ابن عربي




مقال مُطوّل، تعقيباً على من عقّب مُفسّراً ومُؤولاً لمقولات مُحيي الدين ابن العربي.
بعدما تكلّمت عن التصوّف، وتاريخه، طُلب مني الحديث عن ابن عربي، والحلاّج. فآثرتُ الحديثُ عن ابن عربي، لما له من أثر عند الكثيرين، وأريد ان أقول قبل البداية في المقال، أنني لستُ أشارع نصوصه دينياً، فأنا لست شيخاً، بل سأحاول التعقيب على من يبرّر بعض الأمور التي لا تُبرّر -من وجهة نظري-، أنا من أنصار الفلسفة، من الفلسفة أن نُفكّك النصوص، ومن الذين يدعون الى أن يتكلّم المُتكلّمُ في مجاله، لأن الذي يخوض في غير مجاله، أو، يجعل كل التخصصات 'شيئا واحداً'، خاصة ونحن نتكلّم عن الدين والفلسفة، فهذا يُشوّشُ كثيراً.
النّص من موقع هنداوي، سأحاول أن أعلّق على كل نصّ.
يقولون: للصوفية اصطلاحات ورموز، ولغة اختُصوا بها، فإذا اختُلف في معانيها، يجب أن ترد إلى أصحابها وأولي العلم بأسرارها. يقول محيي الدين: «اعلم أن أهل الله لم يضعوا الإشارات التي اصطلحوا عليها فيما بينهم لأنفسهم؛ فإنهم يعلمون الحق الصريح في ذلك؛ وإنما وضعوها منعًا للدخيل؛ حتى لا يعرف ما هم فيه؛ شفقةً عليه أن يسمع شيئًا لم يصل إليه، فينكره على أهل الله فيُعاقب.»
*أقول: الصوفية في الأساس هي علمُ السلوك، فقد فصّلت في هذا، فما كان عليه الجُنيد البغدادي، وعبد القادر الجيلاني، والنووي، هو سلوك حسن وذِكر وصلات على النبي وقيام الليل والاستغفار وتعليم الناس دينهم وأحكامه وسنن نبيهم وارشادات الصحابة وأهل البيت، فلم تكن لهم لا لُغة خاصّة، ولا رموزٌ مُعيّنة، واستعمال هاذين اللفظين ليسا من "المصطلح الديني"، بل هو أشبه بالأُحجية والفلسفة التي اعرف شيئاً منها. فيقول مُحي الدين، أن أهل الله وضعوا رموزاً منعاً للدخيل. بصراحة هذه الجملة حيّرتني، لأن الإسلام واضح، وتعاليمه وَجَبَ أن تُنشر دون تجزئة ولا تفرقة ولا مقايضة ولا اشتراط ولا قُربان معيّن، والسؤال أيضاً، لمَ لا يجب أن يُعلمَ ما هُم فيه؟ لو كان الخِطاب بين أهل أرضٍ ومُستعمر ومورِست التقيّة لنَشرِ الدين خِفيةً لُقُنا نعم، هي كذلك الى ان يتغيّر الأمر، اما عن الشّفقة، فلا أر أيضا أين محلّة الشّفقة في رجلٍ يريد أن يتعلّم دينه من أُناس أخذوا السّند عن النبي او صحابته أو أهل بيته، ولا نعرفُ شيئاً يُنكر من الدين الا المُنكر والمُحدث والغريب.
يقولون: قال «إن من أعجب الأشياء في الطريق أن ما من طائفة تحمل علمًا من المنطقيين والنحاة، وأهل الهندسة والحساب والمتكلمين، إلا ولهم اصطلاح لا يعلمه الدخيل فيهم إلا بتوقيف منهم إلا أهل هذا الطريق، فإن المريد الصادق إذا دخل طريقهم وما عنده خبر بما اصطلحوا عليه، وجلس معهم وسمع ما يتكلمون به من الإشارات، فَهِمَ جميع ما تكلموا به، حتى كأنه الواضع لهذه المصطلحات.»
ويقول مجد الدين الفيروز آبادي: «كما أعطى الله الكرامات للأولياء، أعطاهم من العبارات ما يعجز عن فهمه فحول العلماء.»
*أقول : أتّفق أن أهل كل صنعة يعلمون مصطلحاتهم، لكن أليس أهل الإسلام لهم "صنعة" واحدةٌ وجب أن يعلمونها جميعاً، وهي ليست حِكراً على أحدٍ دون أحد؟ لمَ يجِبُ أن تكون مريداً، أي، أن تقوم بأمورٍ مُعيّنة، كي يتمّ قبولك بين المُستمعين، لكي تأخذ شيئا يُقال انه سندٌ عن سَندٍ الى النبي الخاتم، أليسَ هذا عمل عصابة وليس مجلسُ علمٍ؟ وهل يتكلّم المسلمون بالإشارات؟ أما بالنسبة لتعقيب الفيروز آبادي، فهو تعقيب سيّء، لأن الأولياء الحقيقيون، أي الصحابة، لم ينقلوا شيئا لا يَفهمهُ أبسط الناس، فكيف بكبار العُلماء، الا إذا جعل الصحابة أقل شئناً من الذين جاءوا بعدهم بمئات السنين، فصار لكلماتهم أكثر حكمة ديناً ومنطقا وكرامة لم يُكرّم به الصدّيقون، كذلك، اذا كان الإسلام لا يفهمه سوى "فحول العلماء"، فهل نستأمن ديننا من أناس يفكّكون لنا النصوص، كما كانت تفعل الكنيسة في العصور الوسطى، وما يدرينا ان كان قولهم صدقاً، خاصو وانّ منهم من انتهج نهج الحشاشين وجعلوا الدين عصابة ومُلك وسحر واغتيالات، ولا يخلوا عمل من أعمالهم الا بنصّ او حديث يفهمه كما يشاء هو. كذلك، هل أوصى الرسول الأكرم أن يبقى الدين حكرا في الزوايا والخبايا، ولا يًعطى الا بشروط أو بتكرار أمور  لم تَرِد مثل الصلاة التازية؟ انـا هُنا أخاطب العقل ولا اتّهمُ أحدا.  
يقولون  : ويقول محيي الدين: «كثيرًا ما يهبُّ على قلوب العارفين نفحات إلهية، فإن نطقوا بها جهَّلهم مَنْ لا يعلم، وردَّها عليهم أصحاب الأدلة من أهل الظاهر، وغاب عنهم أن الله — تعالى — كما أعطى أولياءه الكرامات، أعطاهم العبارات المعجزة.»
*أقول : مُحقّ لو كان كلامك عن نصوص فلسفية أو شعرية مُشفّرة، فنحن لا نفقه الكثير من المصطلحات الجاهلية، وبذلك نعود الى القاموس أو الفحول اللغويين ليفسّروهم لنا، كذلك نعود لدارسي الفلسفة، لنعلم المقصود من العبارات، لكن نحن أمام نصّين دينيين، القرآن والحديث، فنحن لحاجة –اذا استشكل علينا الأمر- أن نسأل من يبسّط لنا مـا هو أصلا مُيسّر جداً، القرآن والحديث فيه من البلاغة والقوّة ما يجعله يتماشى مع جميع العقول بشكل عام، الا الذي في نفسه خبث يريد أن يقلب المعاني، أو الذي لا يفقه شيئا من اللغة ولا العُرف ولا أي شيء. فالعبارات المُعجزة، هي مُعجزة كما ذكرت، فما حاجتنا للمُعجز من العبارات؟ هل الكرامة شيء مُبين أم مُعجز؟ هل الكرامة تربط العُقد أم تفكّ العُقد..
يقولون :لكل علم من العلوم اصطلاحاته الفنية، ولغته الخاصة؛ فيجب الإحاطة أوَّلًا بلغة التصوف ورموزه، قبل الجحود والإنكار.
يقول محيي الدين: «مَنْ لم يقم بقلبه التصديق لما يسمعه من كلام هذه الطائفة فلا يجالسهم، فإن مجالسهم سُمٌّ قاتل.»
أقول : هل مُجالسة الصحابة سمٌّ قاتل؟ لأنني أجزم أنهم سيفسّرون المُفسّر، ولن يزجروا أحدا. واكرّر، مصطلح "الرموز" لا يليق في كل ما هو دين.
يقولون :يُحَذِّر محيي الدين من سوء الفهم، أو سوء التأويل لكلمات العارفين، الذين أوتوا الكرامات، كما أوتوا الكلمات المعجزة، والرقائق الغالية، والدقائق المشرقة.
وسوء الفهم، وسوء التأويل، هو الذي دفع بالكثير من رجال الفكر إلى مخاصمة محيي الدين والصياح به، والإنكار عليه، ولو ردُّوا ما أنكروه إلى أهله ورجاله، لعرفوا اليقين، ولمسوا النور المبين.
أقول : لم يُنكر أحد من المسلمين على آية واحدة، أو حديث أو قول صحابي الا ما استشكل فيه السّند والمتن، اما اذا صحّا فلا يُنكرِ ما صحّ الا لئيم، فالسؤال، لمَ يُنكرون عليكم ولا يُنكرون على غيركم؟ أليس ربما لأن في كلماتكم معاني لن تجدها في القرآن والحديث؟ أو لأنها تُشبه أقوال غير المسلمين (قصدا أو بدون قصد) ؟ ليس هناك دخان بلا نار، لمَ يجبُ أن تعقّد كلماتك حتى تُصبح معانيك تُفهم بالمعكوس، كيف لي مثلا أن أضيف شيئا جديدا على "لا اله الا الله"، لا استطيع قطعا، فهي كاملة وافية واضحة جليّة، ومن زاد حرفا أو انقص أو قطعها بشيء، فسوف يُخلّ بالمعنى، ولا يلومنّ الا نفسه! فقد يقول أحدنا كلمة لا يُلقي لها بالا، يعني لا يقصدها، فترميه في الجحيم، لنفكّر!
يقولون :ومن تلك المتشابهات في كلام محيي الدين: أنهم نسبوا إليه وحدة الوجود، ونسبوا إليه أنه جعل الحق والخلق شيئًا واحدًا؛ حين قال:
فيحمَدني وأحمَده ..ويعبُدني وأعبُده
يقول الشعراني: «هذا منطق عربي مبين، على نهج الأسلوب القرآني، وعلى صحة نسبة هذا القول إليه، فمعنى يحمدني: أنه يشكرني إذا أطعتُه، كما في قوله — تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ. وأما قوله: «ويعبدني وأعبده» أي: يطيعني بإجابته دعائي، كما في قوله — تعالى: لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ أي: لا تطيعوه، وإلا فليس أحد يعبد الشيطان كما يعبد الله — سبحانه.»
*أقول: اما هذه فليس لها مَخرجٌ تماما، لأن الكلام باللغة القرآنية بالتطابق التام، يستوجب ان يضع المخلوق نفسه في مكان الخالق! يعني أن الشعراني جاء ليبرّر تجاوز محيي الدين، فوقع في ما هو أخطر، وأعود وأكرّر، لمـا كل هذا التعقيد في التعبير، اللغة العربية محيط من المعاني فلمَ تُضيّق على نفسك الكلمات، فاما أنت قاصد للمعنى، أو انك تريد أن تُغيض أطرافا –تلاعب بمشاعر من ينكرون عليك-واما لغتك جد ضيّقة وطريقة مزجك للروحانية والفلسفة مع الدين كانت سيّئة.
يقولون :ومن المتشابهات أيضًا عنده، والتي فَسَّرها هو بنفسه، وعلى ضوء هذا التفسير يمكننا أن نمسك بمفتاح محيي الدين، الذي يرشد إلى إدراك حقيقة معانيه وحقيقة ألفاظه، أو حقيقة نهجه الذي تَمَيَّزَ به، كما تَمَيَّزَ كل كاتب بأسلوبه وتراكيبه. قال محيي الدين:
يا مَنْ يراني ولا أراه ..كم ذا أراه ولا يراني
فسأله بعض صحبه لما سمع هذا البيت: كيف تقول: إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال محيي الدين على البديهة فورًا:
يا مَنْ يراني مجرمًا ..ولا أراه آخذا
كم ذا أراه منعمًا ..ولا يراني لائذا
قال المَقَّري، صاحب نفح الطيب؛ تعقيبًا على هذا القول: «من هذا وشبهه تعلم أن كلام الشيخ — رحمه الله — مؤوَّل وأنه لا يقصد ظاهره؛ وإنما له مَحَامِل تليق به؛ فأحسِن الظن به، بل اعتقد، وللناس في هذا المعنى كلام كثير، والتسليم أولى، والله بكلام أوليائه أعلم.»
أقول : نفس الرد عن سابقه، على ذكر التأويل، وحدهم المعتزلة وبعدهم الأشاعرة والمتوريدية من قبلوا التأويل في القرآن، وانا هنا لست أقر ولا أنكر، كما ذكرت في الأول، لست مشرّعاً. انما تجعل نصّك في حبل التأويل، وان المسلمين فتنتهم كلها بين التأويل والاثبات والتفويض، فهذا تلاعب كبير وخطير، خاصّة وانه كلام في الله، وليس كما ذكرت في الشعر أو الفلسفة، فهما نعم يمكنهم أن يشفروا نصوصهم ونحن نأوّل عنهم ولا نُذنب لان الحديث في البصل والخيم والحب والبهائم.. وليس حديثا في الدين والرّب.
يوقلون :ذلك قول المؤرخ العظيم المَقَّري، صاحب نفح الطيب، في وجوب الفهم والتذوق أوَّلًا، ثم حسن الظن وجمال التسليم؛ لأن لكلام العارفين الكُمَّل محامل تليق به وتليق بهم، ورضوان الله على العارف القائل:
تركنا البحار الزاخرات وراءنا ..فمن أين يدري الناس أين توجهنا
ولقد ذهب خصوم محيي الدين الذين ملئوا الدنيا حوله صياحًا في حياته، ولاحَقوه في تاريخه، ذهبوا وبقي محيي الدين؛ لأن الحق يبقى، وما كان خصومه بالنسبة إليه — كما قيل — بأكبر من ناموسة نفختْ على جبل تريد إزالته، وتذهب الرياح بأمم من الناموس، وتبقى الجبال شوامخ راسيات، يُثَبِّت اللهُ بها الأرض، وينفع بها الناس، وتتدفق منها الكنوز والخيرات.
أقول : ولأنني مسلم ومؤمن ان شاء الله، ومحسن للظن، أقول أن الكلام هذا دُسّ على مُحي الدين ونُسب اليه ان شاء الله، وان كان قد كتبه فعلا، فلربما ذهب عليه عقله، أو قد تاب عليه قبل أن يموت، أو ربما تأويل كل ما قال ليس فيه شبهة الحلول والاتحاد كما هو "واضح"، ولست هنا أتملّق ولا اتراجع عن شيء، انما عُرف عليه أنه مسلم، وأن شبهة الدّس على النصوص واردة، أما نحن، فنحاكم النصوص وليس الأشخاص عينهم، لأننا لا ندري على ماذا ماتوا، تماما مثل الذين نعتدهم شهداء أو أبطالا وهم عند الله ليسوا بشهداء.. وفي التاريخ ليسوا بأبطال.

والسلام عليكم.
المقال 221
#عمادالدين_زناف

اللهم لا تجعلني ظالماً للحق ولا ساكتاً عن الحق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق