لم تتوقف الكتب - مذ أن خطّ الإنسان بالحبر - على قصّ الأحداث التي تفضح جشع البشر بإخوانهم من بني جلدتهم، فقد آثر الحبيب أن يغتال من يحب لكي يأخذ مكانه في الحُكم والإمامة والوظيفة، ومكانته - جبراً - بين الناس والأحبار والمثقفين.
فقد صرخت الأوراق بوصف الحسد في التاريخ، ولكن سبقهم في ذلك إبليس، فقد حسد آدم إذ أُمر أن ييجد له والملائكة، وحسده إذ نفخ الله من روحه على جسدٍ من ماء وصلصال، وعزم على أن يكرّس مشروع غيرته وضغينته وحسده، بأن يزرعه في كل إنسان، يسمح له بأن يقود عقله وقلبه وجوارحه.
بهذا سنّ ابليس والشياطين سنّة البغضاء والعداء، وقد كرّسها واحدٌ من ابني آدم على آخيه، ولم يطل الأمر كثيراً إلى أن استقرّ الحسد طويلاً في قرية نوح، يسفّهونه ويستخفّون بدعوته، وبعد الطوفان، وانتشار الحضارات في أرباع آسيا، توالى الأنبياء والصّلحاء، وفي كلّ مرّة يُقابل النبي بالصّد والنّكران، بعضهم أفصح عن حقده إذ يسأل لمَ نزل الوحي على رجل من قبيلة أقلّ شأناً من قبيلته. فكان لنبيّنا محمد عليه صلوات الله عليه النصيب الأكبر، وآله من بعده، إذ نُصب لهم العداء، لا لشيء سوى أنّهم من نسل الكرماء.
وقد ذكرتُ غير مرّة، حسد النبلاء لليوناردو دا فينشي، فقد كان بحراً من العلوم والفنون، غير أنه لم يكن يحسن اللاتينية، فأخذوها ذريعة لاقصائه من زمرة النبلاء الإنسانيين. كذلك حدث لإدورد جينر مخترع اللقاح، وإغناس سيميلفيس، الجراحي ”الناصح بغسل اليدين“!
كلهم طردوا حسداً لتفوّقهم وسبقهم الفكري.
فالحسد يمزّق قلوب البشر تمزيقاً، والحسد عكس الغيرة يؤدي إلى الجريمة، والجريمة ليست بالقتل دائما، بل تكون أبشع من ذلك، ذلك أن الحاسد لا يُبقي للمحسود شرفاً الى وهتكه بلسانه وغمزه للقريب والبعيد، ولا يكون الحاسد حاسداً الا وقد خلع الإيمان من قلبه، والمنطق من عقله، فالإيمان يلزم المؤمن أن يرضى بقسمة الله ورزقه، وأن يعرف أن لكل قدره ونصيبه، ولكل معاناته ومصائبه، والمنطق يلزم العاقل بأن يصدق بالعمل، فالبعمل يمكن للمجتهد أن يصل، قد لا يصل لمرتبة جاره وقريبه، ولكنّه بادر وارتقى، وهذا هو الأصل.
الحسد ليس شعوراً عادياً، بل هو وليد التراكمات، يجعل من الحاسد ميكيافلياً، يخطط بدهاء الشياطين، فهم يعينونه على ذلك، يقول نيتشه «مشاعرنا كأفكارنـا، غير أنّ هذه الأخيرة أكثر بسـاطة»، فالمقصود أن المشاعر أعقد من الأفكار، لا يمكن تحليلها أو الاحاطة ببدايتها ونهايتها.
أمـا الأفكار، فمعظمها مكتملة الأركان، على سذاجتها أو عبقريتها.
آرسطو قال أننا نحسد أشباهَنـا، في العمل والميدان والسنّ والبلدة، لذلك تجد أن آخر من يُقدّر جُهودك هم المقرّبون، من همُ في سنّك وعلى مقدرة ”نظرية“ لفعل ما تفعله، فإن المُعاصرة أصل المنافرة، قلّة هم من لا ينصبون لك البغضاء والحسد من معاصريك، ولو كتموا ذلكَ تقيّةً من مُحبّيك.
الحسدُ يمنعك من العدل، فالحاسد يخذل الحق إن لم ينصر الباطل، ويتمنى في صمته أن يهلك الناجح.
أخيراً، يتصدّر حسّاد الدين مرتبة الحساد مباشرة بعد إبليس، وهذا بقول الله تعالى: «ود كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا #حسداً من عند أنفسهم من بعد أن تبين لهم الحق»
فاللهم اجعل انفسنا طاهرة من الحسد.
Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق