التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عندما تفلسف التصوّف



يقول البَـيروني”الصُوفية مأخوذةٌ من الكلمة اليونانية صُوفوس،  والتي منْها فيلوصُوفيا، بما يعني حُب الحكمة،  ومنها السَّفصطة، أي مذهب الحكمة“. وهو رأي شاذٌ وزائف، ولكنّه يُلامس التـَّلاقي بين الفلسفة والصوفيّة عند البَحرُ العَلم البَيروني! فالقول عن التصوّف بالمُجملِ لم يُجاوز لباسَ الصُّوف، لتوفّره وبخص ثَمنه، للصّفاء والكَرم، وللصّفّيّين، الذين يلتحقون بالصّفوف الأولى في الصّلاة. قالَ عنهُ الكتّـانيّ أنّهُ الخُلُق، وقالَ التُـسْتُريّ أنّهُ من صَفا من الكَدَر، وقال الـرُوذَباريّ هو من لبِسَ الصُّوفَ على الصّفا..وكانت الدُنيا منهُ على القفا..ونهجَ سبيلَ المُصطفى، وقالَ ذو النُـون المِصري من إذا نَطَقَ أبانَ عن الحقائِق.. ومن إذا سكَتَ نَطَقت عنهُ الجوارِح بقطعِ العلائق. ولكن أُصيب هذا التصوّف بعقائِدَ زندُقيّة مقيتَة، مُختلفةُ المصَادر. وكان التَصوّف والزُّهد شيئاً واحداً، إلى أن افترقا في يومٍ حزين. وأصبحَ للتصوّف سُلوكاً مُستقلّاً، وقد نوّه حُجّة الإسلام الغـزّالي، أنه ليس الزُّهد لمن ليس له ما يترُكُه، إنّما هو التّركُ لمن كان لهُ نصيبٌ من النّعمِ، وأصلُ التصوّف في الزهد عن الدنيا بِما فيها لـ لله. فمن ذا الصُّوفيّ كأبي حامد والحافِظ السُّيُوطي! لكن، متى ظَهر مُصطَلحُ التصوّف؟، يُقالُ أنّ أوّل من تكلّمَ به هكذا هو الجـاحِظ ”الصُوفيّة النُسّاك“، فكُلّ ما نُسبَ للأعلامِ بهذا المُصطلح قبل الجاحظِ كَذبٌ. فقد كان يُسمّى بالسّير والسُّلوك عند ابن تـيميّة كمِثال، وقد كانَ التصوّفُ الإسلاميّ الأوّل زُهداً، مصدرهُ الكتابُ والسّنة، بالخُصوص أوّل قرنينِ مِنَ الإسلام. 
مع بداية القرنِ الثالث انشقَّ التصوّف عن الزُّهُد، وهي الفترة التي عرفت ترجمة الفلسفة اليونانيّة عند العرب، فبدأ التأثّر بشكل كَبير بالفِكر الأفلاطونيّ، حيثُ مهّد لهذا الكِنْـديّ، ومَعروف، معروفُ ابن فَيْـرُوزان الكَرخيّ، وتوالى مع السَـقطيّ، ثمّ الجُـنَيْد، وكلُّهم ينتمون للمدرسة البغداديّة.  في نفسِ الفترة انبثقت حركةُ الزّنادقة، والإباحيّة في التصوّف. وقيلَ أنّهُم كانوا يقولون أنهم قد ”وصلوا“، وأنّ بالعبادة المُثلى قد سَقَطت عنهم الفرائِضُ! كما دوّنوا”اسقاطُ العبادة عن أهلِ الولاية“!، فقالَ عنهم الجُنيد أنهم ”قد وصولوا إلى صَقَر“. وكانَ التشقّق عن الزُّهد بتبنّي المدرسة الفارسيّة للزندقة في العقائد الأوليّة متأثرة بالفلسفة اليونانية، كأزليّة الكون. فشاعَ فيها الغُنوص وقلّة الحِسّ، من أشهر أعلامها البُسطاميّ والحُسين ابنُ منصور الحـَلّاج، وقد كان حُلولِيّاً، معتقداً أن الإله يحلُّ في الإنسان، وهي فكرة بعيدة عن الشريعة والزّهد الأوّل. 
فانتشرت الإباحيّة، إباحةُ المكروهات ووضعُ العِبادات، والحُلوليّة. فيمنتصف القرن الثالث الهجري، عرف التصوّف منحى فلسفيّ، مع ثوبان ابن ابراهيم ذو النون، الذي أشاع الأفلاطونيّة المُحدثة، التي تُنسب إلى أفلوطين، وانفجرَ في القرن السادس والسابع مع مؤلّفات مُحي الدين ابن العَربيّ، الحاتم الطّائي، وعبد الحق ابن سبعين، والسُّهوردي، وظهرت معها وحدانيّة الوُجود، أي أن الخالق هو الطبيعة، مشتقة من الهندية القديمة كفلسفة ومُعتقد. وهو نفس الفكر عند الفيلسوف البرتغالي باروخ سبينوزا. 
وما يزال أتباع المذهب الصّوفي منتشرين بقوّة في العالم، فمنهم من اتّبعوا الزّهد الأوّل، وهم الأولياء العرفين بالله، ومنهم من تبنّى التصوّف الفلسفي الثاني، الذي عرفته المدرسة الغدادية المعتدلة نوعاً ما، ومنهم من تبنّى الأفكار الزندقية الواضحة ابتداءً من المدرسة الفارسية والهندية القديمة. 
استفدتُ في هذا المقال من مراجع طرحها الدكتور عدنان ابراهيم حول تاريخ التصوّف. 

#عمادالدين_زناف 
المقال 181

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...