الاثنين، 1 يوليو 2024

؟لماذا اختفت الفلسفة اليونانية




لماذا لم تعد اليونان تُنتج الفلاسفة منذ عهد أرسطو؟

                          |مقال عماد الدين زناف|

لكن السؤال الأكثر إزعاجّا، لماذا لا يتحدث أحد عن هذا الموضوع؟ فرغم محاولة نيتشه الإجابة عنه، إلا أنه أخذه بشكل ساخر، رغم أنه أطلق إشارة مهمة للغاية، وهي تقلّص عدد اليونانيين الأصليين أمام الجنس الجديد «الهيلنستيين»، الذين لا يعدّون سكانًا أصليين لليونان، بل ويذهب نيتشه لأبعد من هذا قائلا أن كتى سقراط نفسه ليس يونانيا، فاليونانيين هم فلاسفة ما قبل سقراط بالنسبة له.

سأحاول توضيح الأسباب التي أدت إلى انهيار الفلسفة اليونانية بشكل مفاجئ، وكيف ورثت أوروبا تلك الفلسفة وطورتها، ابتداءً من الرومان.  نحن نعلم أن اليونان قد عاشت فترة غنية بالإنتاج الفلسفي خلال العصور القديمة، خاصة في فترة ماقبل الميلاد التي يتناساها الناس، مع شخصيات بارزة مثل طاليس وفيتاغورت وهوميروس، ثم مع الموجة الأكثر شهرة في صورة سقراط وأفلاطون وأرسطو. وبعدها تمامل حدث شرخ غير مفهوم، ولهذا الشرخ عوامل تفسر لماذا لم تُنتج اليونان فلاسفة بنفس القدر بعد هذه الفترة، بل وربما ولا أحد.

أولا نبدأ بالانحطاط السياسي والاقتصادي. بعد العصر الذهبي للفلسفة اليونانية، تعرضت اليونان لغزوات متتالية، أولاً من قبل المقدونيين بقيادة الإسكندر الأكبر، الذي كان تلميذا عند أرسطو، ثم من قبل الرومان التي أنهت السلطة المركزية العلمية لليونان. بعدما تحولت رونا الى النصرانية، جرى التنصير على كامل البلدان الخاضعة لها. حبث تغيرت المراكز الفكرية تماما، فأصبحت اللاهوتية المسيحية هي السائدة، وتوجه العديد من المفكرين اليونانيين مثل تلامذتهم الرومانيين نحو المسائل الدينية والمذهبية، بدلاً من الفلسفية بالمعنى الكلاسيكي لما قبل النصرانية. وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، انتقلت المراكز الفكرية إلى مناطق أخرى مثل القسطنطينية (استمبول حاليا)، ثم لاحقاً إلى أوروبا الغربية خلال عصر النهضة، وبهذا فقدت اليونان دورها المركزي في العالم الفكري،. كذلك خلال الفترات البيزنطية ثم العثمانية، كانت اليونان تحت تأثير ثقافات مختلفة، مما أدى أيضاً إلى تغيير التقاليد الفلسفية المحلية، لكن هذا لا يفسر تماما تلك القطيعة، لأن عديد البلدان عرفت نفس هذه التأثيرات ولم يتوقف انتاجها الفكري، سيأتي الشرح المفصل.

قبل ذلك، علينا أن نعلم بإن الفلسفة قد استمرت كحقل دراسي في التطور واستقطاب مساهمات من ثقافات ومناطق مختلفة، حيث تأثرت الفلسفات الوسيطة والحديثة والمعاصرة بفلاسفة من دول شرقية وأوروبية أخرى، مثل فرنسا وألمانيا وإنجلترا، فهذه العوامل، من بين أخرى، أسهمت في تراجع الإنتاج الفلسفي في اليونان بعد العصور القديمة، بيد أن كل تلك الفلسفات درست الفلسفة الأم،  اليونانية. لكن قلّ ما نذكر أن اليونانية نفسها تأثرت بالفلسفة المصرية القديمة بشكل كبير، فمعظم الميثيولجيات اليونانية ليست سوى نسخ لجارتها المصرية، وأن أصول العلوم الفلكية والهندسية والرياضية، أخذها اليونانيين من المصريين، ثم طورها بشكل لافت جدا يستحق ريادتهم على العالم الغربي.

إن الانحطاط الفلسفي في اليونان يُعزى تماما إلى الاختلاط العرقي، عكس كل الدعوات التي تنفي ذلك، فليس من العنصرية في شبء أن نقول بأت هناك شعوب تحسن أشياء أحسن من شعوب أخرى، والشعوب التي اختلطت مع اليونانيين ليسوا أهلا للفلسفة. طبعا هذا يتماشى مع عوامل تاريخية وسياسية واقتصادية وثقافية معقدة.

السبب الذي أراه المؤثر الحقيقي الذي لا يذكره المؤخرون كثيرا، لأن يعيب شعوبهم وبلدانهم، هو موجات الهجرة التي شهدتها اليونان منذ العصور القديمة حتى اليوم. فقد شهدت العديد من موجات الهجرة والغزوات منذ العصور القديمة، والتي أثرت على سكانها وثقافتها بشكل جذري، وهذا ملخص لتلك الموجات.

الهجرات الهندو-أوروبية (حوالي 2000 قبل الميلاد): استقر الإغريق الأوائل، مثل الأيونيين والدوريين، في المنطقة، مشكلين بداية الحضارة الميسينية، نستطيع القول أنهم السكان الأصليين لليونان.  ثم بدأ الاختلاط مع هجرات شعوب البحر، او الفينيقيون كما سموهم هم (حوالي 1200-1100 قبل الميلاد) وفد شهدت هذه الفترة انهيار العديد من الحضارات البرونزية، بما في ذلك الحضارة الميسينية، مما أدى إلى تحركات سكانية وهجرات عشوائية.  في  (القرن 8-6 قبل الميلاد)، أسس الإغريق خلال هذه الفترة العديد من المستعمرات عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، مما عزز التبادل الثقافي والديموغرافي وتأثروا كثيرا بأساطير المصريين وشعوب الليبو والنوميديين والصقليين. ثم جاءت الغزوات المقدونية (القرن 4 قبل الميلاد)، حيث غزا الإسكندر الأكبر اليونان بإمبراطورية شاسعة. وبعد وفاته، أنشأ جنرالاته (الديادوخوي) ممالك هلنستية (التي تحدث عنهة نيتشه)، مما أدى إلى جذب عديد السكان غير اليونانيين نحو اليونان. ثم الغزو الروماني في (القرن 2 قبل الميلاد)، حيث أصبحت اليونان جزءاً من الإمبراطورية الرومانية، وأنشأ الرومان مستعمرات في المنطقة، مما أدى إلى تحركات سكانية بين اليونان وأجزاء أخرى من الإمبراطورية، وبدأت الفسلفة الرومانية تنشأ على حساب اليونانية التي اندثرت.  بعدها توالت الغزوات الجرمانية في (القرن 3-5 بعد الميلاد)، حيث أدت غزوات القوط والفاندال والهون وغيرهم من الشعوب البربرية إلى اضطراب الإمبراطورية الرومانية وتأثيرها على اليونان الروماني، ثم الإمبراطورية البيزنطية (القرن 4-15 بعد الميلاد) وخلال الفترة البيزنطية، استقر السكان السلافيون في البلقان وكذا اليونان، بدءاً من القرن السادس، وهم شعوب أخرى تماما، وأخيرا، جاء العثمانيون في (القرن 15-19) بعد سقوط القسطنطينية عام 1453م، فدمجوا اليونان في الإمبراطورية العثمانية، وقد شهدت هذه الفترة تحركات سكانية تركية إلى المنطقة، وكذلك هجرة السكان اليونانيين إلى أجزاء أخرى من الإمبراطورية أو خارجها.

وهذا ما يفسر غياب اليونان في كل الأوقات الذهبية للفلسفة في العصور الوسطى (السكولاستية) وعصر التنوير، وكذا التيار الرومنسي في القرن التاسع عشر.

المقال رقم 501.
#عمادالدين_زناف