الشامل عن الفلسفة المصرية القديمة، التي تقودُ العالم.
▪ظاهرة الفلسفة.
لم تعرف الفلسفة شكلها الناضج الا في القرن السادس قبل الميلاد. ومع هذا، فلا يخفى عند الكثير من المهتمين بأمّ العلوم، أنّ مرحلة ما قبل سقراط، كانت المُفعّل والمكوّن الحقيقي لما يُسمّى الفلسفة اليونانيّة. فلاسفة وعُلماء مثل طاليس وفيتاغورس، كزينوفانيس، هيرقليطس، أنتيفونس أو ديموقريطوس، كانوا الحجر الأساس لقيام النهضة الاغريقية، قبل أن تُصبح حضارة هيلينيسية، امتزج فيها الفكر اليوناني بالفكر الشرقي بوضوحٍ تام. عُرف فلاسفة ما قبل سقراط بالنظريات الهندسية والرياضية والكونية، لكن لم تَعرف اليونان في ذلك الوقت حضارة قائمة على أسس صُلبة –عمرانية وإدارية-، عكس الحضارة الضاربة في عُمق التاريخ في الضفة الأخرى من البحر المتوسط، مِصر.
▪مؤسسة اليونان.
لا يَختلف اثنان على أن اليونان هي مهدُ الحضارة الأوروبية قاطبةً، ولكن لكل بداية، بداية أخرى، ولكل مادة وفكرة، فكرة ومادة أسبق.
تتضارب الموروثات الحضارية في أصول الفكر ما قبل سقراطي، لكن مما لا يدعو للشّك، أن حساب زوايا وأضلاع ومساحات الأشكال الهندسية لم تَكُن الا بالنّظر الى الهندسة الحضارية المصرية، فلا يوجد بالمنطقة أقرب لليونان من مصر، ولا حضارة متكاملة الأركان مثلها. فقد كان هؤلاء الفلاسفة مُحلّلين ومُفسّرين لظاهرة حضارية، ولم يكونوا مؤسسين لها، فاستعملوا المنطق الرياضي والهندسي لبناء تلك النظريات، ليصلوا أو ليلامسوا طريقة بناء الحضارة من البداية.
إذا كان موروث الاولينَ شحيحاً، لا يكاد يوجد مختصّ في التاريخ والفلسفة، يشكّك في رحلات أفلاطون وأرسطو لمصر، للتعلم عند علماء مصر، ولم يكونوا الوحيدين، يمكننا ذكر من سبقهم مثل المؤرخ الكبير هوميروس.
الجذور.
كل هذه التوطئة تجعلنا نطرحُ تساؤلات مشروعة، هل كان اليونانيين لصوصاً، أم حفنة من نقلة العلم، أم مُطوّرين لعلم سابق؟
الإرث الحضاري الذي تلقّفته اليونان، لم يكن سوى نتيجة عمل فكري وفلسفي وعلمي وثيولوجي عميق، ثابت في جذور حضارة مصر. عام ثلاثة آلاف ومئة وخمسون سنة قبل الميلاد، بدأت تتوحد صري في عهد الملك مينا، بتأسيس عاصمتها ممفيس. في ذلك العصر، لم تكن اليونان بشيءٍ يُذكر، الى غاية ألف ومئتين قبل الميلاد، برز العصر الكلاسيكي، أو العصر اليوناني المُظلم، الذي تخللته حروب عديدة على رأسها الغزوات الفارسية العديدة، بينما كانت مصر في عهد الفرعون آمون مسس، الحاكم للأسرة التاسعة عشر! الفرعون رقم مئتين وستة وأربعون لمصر. فمن الطبيعي جداً أن يكونَ لمصر القديمة، السبق في التصوّر الكوني والثيولوجي والفكري، والعلمي والرياضي والهندسي، ومُجرّد مناقشة هذا يُدّ ضرباً من السّفاهة.
عند المصروليجيّين، أي علماء المصريات، تعود الفلسفة الوجودية الى ذلك التاريخ، تحديداً الى اوزيريس، لكن الحديث عن هذا مباشرة يُعدّ حرقاً للأشواط، فكيف نفهم الفلسفة المصرية؟
▪بناء المؤسسة الفكرية.
ما تركه لنا المصريون القدماء، هو تراكم فنّي فولكلوري لفكرة ومُعتقد أوسع بكثير، ما نراهُ في مصر، هو بناء هندسي مُتقن، تناغُم عمراني يتوافق والنجوم وحركة الشمس والقمر، بناء ميليمتري يظهر بشكل معيّن، ويرمز لشيء معيّن، مع كل تغيّر موسمي، ليشير الى بداية حول وسنة، وعمل ومحفل. كذلك، تعتبر الهيروغليفية، لغة تصويرية متطوّرة بشكل كبير جدا عن كل منطقة الحوض المتوسط والعالم، وما قد يُنافسها في التعقيد والدقة هو اللغة المسمارية في العراق، التي سبقتها أو عاصرتها.
الرمزية والاسقاط عند المصريين أمر عجيب جداً، يُجسّدون آلهتهم بشكل يشير الى معتقد ميتافيزيقي، مثلا ايزيس آلهة الحياة، اوريس إله السماء. وكل قناع حيوان يعبّر عن فكر وميول ورمزية، يتقلّدها راهب ما، لتمرير رسالة محدّدة. هذه الفكرة أخذها اليونانيون، في صورة زيوس إله الآلهة، وهو تقليد مباشر لآمون، وقد يكون هو آمون نفسه، بصورة جديدة وبُعد آخر. سنعود اليه لاحقاً. مصر القديمة تعتمد على المنطق والمفهوم والتسلسل الهرمي لكل شيء، الفرعون والحكام والوزراء والعمال والمزارعين والعبيد، كذلك العر.ق الأعلى المصري نحو الأعـ.ـراق الأخرى، منطق الهرمية ألهم العالم بأسره في طريقة الحُكم والتعامل البيروقراطي، بمعنى، الوصول الى الرؤساء والحكام والوزراء وأرباب المال، لا يكون بالسهولة التي تؤدي الى الفوضى، بهذا يكون هناك تواصل من كل مجموعة الى ما فوقها الى أن يصل الى الرأس الأعلى، وحتى الآلهة لها مهام خاصة، تبقى تحت لواء آلهة أعلى، الى أن تصل الى المُهندس الأعظم، وسنعود الى هذه الفكرة أيضاً.
هوسُ الكون عند المصريين.
حتى عند أقل الناس معرفةً بالفكر المصري، يُدرك حجم الاهتمام التي اولته هذه الحضارة للسماء والنجوم والكواكب، للكون أو الكوسموس عند اليونانيين. يتربّع على عرش الملوك والفراعنة الذي أسسوا لكل هذا الملك آمون رع، أو أمنرع، إله الشمس والرياح والخصوبة، الهُ كل شيء. هو نفسه سيتحوّل الى زيوس في الميثولوجيا الاغريقية، وكذا جوبيتار في الميثولوجيا الرومانية.
آمون إله الخلق عند المصريين، فهو يُعتبر مروّضاً للفوضى، التي هل أساس الكون، وصنّفها في شكل منفصل، أي الى عالمين.
يرمز اسمُ آمون إلى ما هو مخفي، الشيء غير المعروف، واختيار هذا الاسم يشير إلى الإيمان بالأصل الميتافيزيقي للكون، أي أن فكرة الاله أصلٌ، تتجاوز قدرتنا على التمثيل، فسُميّ "المجهول".
في احدى الجداريات يُقال، لا يمكننا معرفة الخالق انما نكتفي بمعرفة مخلوقاته. توصل المصريون إلى هذا الاستنتاج قبل فترة طويلة من الفلاسفة اليونانيين أو الألمان، مثل إيمانويل كان، الذي تناول هذه الفكرة في كتابه نقد العقل المحض.
نجد فكرًا مشابهًا ومماثلًا عند أفلاطون، يشرح فيها أن الجواهر أصل الكون. إن تقسيمه الواقع إلى عالمين، عالم مادي أرضي، وعالم ميتافيزيقي سماوي، ستكون –حسب نيتشه- تسلسلاً منطقياً لبروز الدين المسيحي، كمواصلة لفكر أفلاطون، دون معرفة الأصل الأساسي لهذه الفكرة، أي الاعتقاد المصري القديم فكرة وجود الخالق.
لكن فكرة المصريين لم تكن بهذه البساطة، لا يزال العديد من الباحثين، يصنفون حضارة مصر على أنه حضارة تؤمن بتعدد الآلهة، بوليتييست، بينما الواقع يقول إنه كل تلك الآلهة تعود الى آمون او المخفي، فقد يكون المصريون موّحدون -لفكرة مشوهة- للرب الأوحد، مونوتييست.
على عكس ما جاء به الدين السماوي –الإسلام- الذي نؤمن به، لا يعتقد المصريون القدماء أن الخلق جاء بإرادة من الله، فهم لا يرون بأن هناك بداية للخلق، أي خلق الأشياء من الله بعد أن لم تكن، وهذا ما تبعهم فيه الاغريقيون، فكرة أزلية الكون وقدم العالم، لا بداية حقيقية ولا نهاية في الأفق، كيف ذلك؟
▪المادة تلد المادة، المصريون يسبقون ماركس.
عند المسلمين، والقصد هنا بكل من تابع الأنبياء على ما جاءوا به من توحيد لله، الله خالق لكل شيء، لكن عند المصريين القدماء ومن تابعهم من حضارات، آمون هو الآب، والآب هو الذي يُنجب، الآب والخالق أمران مختلفان تماما. لهذا بُعث الأنبياء للتصويب.
الآب لا يخلق العالم، بل يلده، مثل المرأة التي تلد ابنها ولا تخلقه، هذه هي فكرة آمون، زيوس، اودين وجوبيتير. عند المصريين، هناك مادة أولية تسبق كل موجود، تُسمى عند الأفلاطونيين ديميورجdémiurge الجوهر المادي الأساس الذي يصنع كل شيء.
هذا المُصطلح يعني بالصانع، أو الحِرفيّ بشكل أوضح، فسّره أفلاطون انه الحرفي الذي وضع قانونا ليُنظّم الكون. هل سمعتم بهذا الاسم من قبل؟ هناك منظمة عالمية لم تعد سريّة تحمل حرف G في شعارها، قد يكون هو الأصل الفرعوني للصانع الذي يؤمنون به، اما العين، فقد تعدّدت الأقوال، لا يَبعُد أن تكون عين حورس الفرعونية، المرفقة في صورة المقال. الأصل الفكري للعالم القديم هو المنظور المصري، والمتوسط والمعاصر تابع له، ما لم يخض للدين السماوي الإسلامي.
عند الفراعنة، الصانع هو القانوني والمشرّع للكون، بعد ان كان عبارة عن دمار وفوضى. تفرعت فكرة الصانع عند المصريين في بعض العصور، بين من عبد آمون، وأتوم، وبتاح حتب. وبتاح حتب، معناه الحرفيّ أيضاً.
نفس فكرة الفلسفة المادية التي تفعل كل شيء لتتحاشى ذكر الله، وتتحاشى القول بالخلق، وتكتفي بالأصل المادي للمادة، لأن الفكرتين متلازمتين، الله والخلق، والقول بهما يغير نظرتهم للكون رأساً على عقب، بكل التفاصيل، ما يجعلهم يحيدون عن الفكر الفرعوني المشرّع لهم. فكرة الفراعنة هي فكرة مادية، السببية لكل شيء، القول بأن العالم بدأ بخلق اراديّ، تعني أن هناك من هو أقدر من الفرعون، في مجتمع هرمي، هذه الفكرة هرطقة عظيمة، كما يبيّن لنا القرآن قصة موسى عليه السلام مع فرعون، الذي يرجّح انه رمسيس الثاني.
▪تلاميذٌ نُجباء، لكنهم لصوص.
هكذا أنعتُ اليونانيين، فقد أخذوا كل ما يلزم من المصريين لبناء حضارة أوروبية تتلاءم مع طبيعتهم، الفلسفة التي لاقت رواجاً واسعاً، وكما بيّنت، تقسيم أفلاطون تماشى مع الفكرة النصرانية، وهذا ما جعل لها القبول في العالم الغربي، رغم أنهم يدركون أن المنبع الحضاري لكل فلسفاتهم هم المشارقة القدماء. تلاميذٌ نجباء، فقد طوّروا العلم من أفكار غير منظّمة، وواصلوا فيها، لكنهم لصوص، اذ لم يشيروا الى مُعلّمٍ مصريّ واحد في مخطوطاتهم، هذا ما يُعاب عن كل فلاسفة اليونان، تبنّي ما ليس لهم، حتى أصبح الغرب يعتقد أن اليونان هي أم الفلسفة.
ان فكرة استاذيّة الحضارات الشرقية، وأديانها، في تعليم العالم الغربي لكل شيء، فكرة صعبة للهضم، هذا ما يُفسّر تحاشى الغوص في أصول الفلسفة اليونانية، أكثر من ذلك، لم يتمّ الى يومنا معالجة اختفاء الفكر اليوناني من خارطة العالم بلمح البصر، بعد كُغيان الفكر الروماني، وسرقته لمعظم الإرث الاغريقي. لم تنتج اليونان ولا فيلسوف واحداً، في زمن عجّت فيه أوروبا بالفلاسفة، من البرتغال الى روسيا ومن إيطاليا الى السويد.
ما لم تُدركه من فلسفة المصريين، تشاده عند اليونايين.
#عمادالدين_زناف
المقال 237
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق